المكتبة الصوتية للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله فصل عشرة لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم اياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين هذه المنة التي امتن الله بها على عباده المؤمنين اكبر المنن. بل هي اصلها وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي جمع الله به جميع المحاسن الموجودة في الرسل ومن كماله العظيم هذه الاثار التي جعلها الله نتيجة رسالته التي بها كمال المؤمنين علما وعملا واخلاقا وادابا وبها زال عنهم كل شر وضرر. فبعثه الله من انفسهم وانفسهم وقبيلتهم. يعرفون نسبه اشرف الانساب. وصدق وامانته وكماله الذي فاق به الاولين والاخرين. ناصحا لهم مشفقا حريصا على هدايتهم يتلو عليهم اياته فيعلمهم الفاظها ويشرح لهم معانيها ويزكيهم ان يطهرهم من الشرك والمعاصي والرذائل سائر الخصال الذميمة ويزكيهم ايضا ان ينميهم. فيحثهم على الاخلاق الجميلة. فان التزكية تتضمن هذين الامرين التطهير من المساوئ والتنمية بالمحاسن. ويعلمهم الكتاب وهو القرآن والحكمة وهي السنة. فالكتاب السنة بهما اكمل الله للرسول وامته الدين. وبهما حصل العلم باصول الدين وفروعه وبهما حصلت جميع العلوم النافعة. وما يترتب عليه من الخيرات وزوال الشرور وبهما حصل العلم اليقيني بجميع الحقائق النافعة وبهما الهداية والصلاح بشر. فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الامام الاعظم المعلم لهذين الامرين الذين ينابيع العلوم كلها تتفجر من معينه فعلم صلى الله عليه وسلم امته الكتاب والحكمة واوقفها على حكم الاحكام واسرارها. فكانت حياته كلها اقواله افعاله وتقريراته وهديه واخلاقه الظاهرة والباطنة وسيرته الكاملة المتنوعة في كل فن من الفنون تعليما منه للمؤمنين وشرحا للكتاب والحكمة. فجمع لهم بين تعليم الاحكام الاصولية والفروعية. وما به تدرك وتنال. الطرق التي تفضي اليها عقلا ونقلا وتفكيرا وتدبرا استخراجا للعلوم الكونية من مظانها وينابيعها. وبين لهم فوائد ذلك كله وثمراته. وشرح لهم الصراط المستقيم انتقاداته واخلاقه واعماله. وما لسالكه عند الله من الخير العاجل والاجل. وما على المنحرف عنه من العقاب والضرر العاجل والاجل فكان خيار المؤمنين بهذا التعليم الصادر من النبي الكريم مباشرة وتبليغا من العلماء الربانيين الراسخين في العلم. من هداة المهديين من اكابر الصديقين. وحصل لسائر المؤمنين من هذا التعليم نصيب وافر من الخير العظيم. على حسب طبقات ومنازلهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم فخرجوا بهذا التعليم من جميع الضلالات وان جالت عنهم الشرور المتنوعة والجهالات وتم لهم النور الكامل وانقشعت عنهم الظلمات فيا لها من نعمة لا يقدر قدرها ولا يحصي المؤمنون كنه شكرها. الحادي عشر وقال الذين كفروا ان هذا الا افك افتراه واعانه عليه قوم اخرون. فقد جاءوا ظلما وزور وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة واصيلا. قل انزله الذي يعلم السر في السماوات والارض انه كان غفورا رحيما. ذكر الله تعالى في هذا قدح المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم. وادلاءهم به هذه الشبه التي يعلمون ويعلم الناس بطلانها فزعموا انه افترى هذا القرآن وانه ساعده على ذلك قوم اخرون. فرد الله عليهم هذه المقالة المنتهية في القبح بان هذا ظلم عظيم. وجراءة يعجب السامع كيف سولت لهم انفسهم هذا القول الهراء. وانه من الزور والظلم فانهم قد كانوا يعرفون بلا شك صدقه وامانته. التي لا يلحقه فيها احد. وانه لم يجتمع باحد من اهل العلم ولا قال في طلبه. وقد نشأ بين امة امية في غاية الجهل والضلال قد جاءهم بهذا الكتاب العظيم الذي لم يطرق العالم اعظم منه ولا اعلى معاني واغزر علما ولا ابلغ من الفاظه واتم من حكمه وحكمه ومبانيه. وقد تحدى اقصاهم وادناهم وافرادهم وجماعتهم واولهم واخرهم ان يأتي بمثله او بعشر سور من مثله او بسورة واحدة من مثله وصرح لهم انهم اذا اتوا بشيء من مثله فهم صادقون وهم اهل الفصاحة والبلاغة في الكلام. فعجزوا غاية العجز عن معارضته والاتيان بمثله. واتضح لهم ولغيرهم عيهم وعجزوا وتبين بطلان دعواهم وكل من حاول ان يأتي بكلام يعارض به ما جاء به الرسول صار كلامه ضحكة للصبيان. فضلا عن اهل النظر والعقول. وكل شبهة يدلون بها في معارضة الرسول من حين يوجه لها النظر الصحيح تضمحل وتزهق. ان الباطل كان زهوقا. ومن انهم قالوا ان هذا القرآن الذي جاء به محمد اساطير الاولين اكتتبها من كتب الاولين المستورة فهي عليه بكرة واصيلا. فيا ويحهم من الذي عندهم في بطن مكة يمليها؟ وهل يوجد في ذلك الوقت في مكة او ما حولها كتب كتب تملى ولو فرض وقدر انه يوجد احد لما يختص محمد وحده بالاخذ عنه ولما كانت هذه مقالة زور وافتراء لا يخفى كذبها على احد تشبثوا وقالوا كان محمد يجلس الى قين. حداد في مكة فارسي فيتعلم منه فلهذا قال عنهم ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون اليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين كان قوله بالغا في البيان والبلاغة نهايتها وغايتها. فلا يمكن الجمع بين النقيضين ان يتعلمه من هذا الابكم اعجمي اللسان الذي لم يعرف عنه علم يرجع اليه ولا معرفة يتميز بها. وهذا القرآن الذي جاء به مع كمال بلاغته حوى علوم الاولين والاخرين ولما كان هذا القول الذي قالوه والمكابرة التي تجرأ عليها قد علم الموافق والمخالف كذبها وافتراءها كان جميع اعداء الرسول لهم ورثة يقومون بالعداوة للرسول والدين ولو جلبت عليهم ما جلبت من الدخول في الكذب والافتراء والمكابرة. وقد عرف هؤلاء الاعداء المتأخرون مكابرة اخوانهم الذين باشروا تكذيب الرسول ورأوا ان مقالتهم قد بطلت واضمحلت وبان زورها لكل احد صاغها هؤلاء المكذبون بعبارة موهوها. وظنوا انها بهذا التمويه تروج. فزعموا وما اسمجه واكذبه من زعم ان محمدا كان يتعلم من نفسه وانه كان يخلو بالطبيعة السماء والارض والشمس والقمر والنجوم فيعطيها لبه ويناجيها بقلبه فيخيل اليه اصناف التخاييل فيأتي بها الى الناس زاعما انها من وحي الله على يد جبريل. وان هذه التخيلات من الامور العالية التي يعتاد الاتيان بها اهل الرأي والحجة ولما رأوا اثارها الجليلة في الاسلام واهله وتعاليمه وتقويمه للامم وبهرهم هذا النور العظيم لجأوا الى هذا التحذلق الذي منتهاه وغايته انهم صوروا النبي صلى الله عليه وسلم ورقوه الى رجل من الطبيعيين كما قال هذا القول الباطل احد ملاحدة الفرنسيين وتلقاها عنه بعض الملاحدة العصريين وهو مبني على انكار وجود رب العالمين وانه ما ثم الا عمل الطبيعة وقد علم الناس ان هذا القول المزور اعظم مكابرة ومباهتة من قول الاولين وان هذا الافتراء الذي ولدوه بعد مئات السنين اوضح ضلالا وظلما وجراءة ووقاحة من زور الاولين. وان هؤلاء الاراذل الذين اعجبوا بارائهم وتاهوا بعقولهم. قد الله كذبهم فيما قالوه وان عقولا ولدت هذه الاقوال المؤتفكة والخيالات والمقالات الفاسدة لعقول سافلة واراء ساقطة يعرف فسادها بنتائجها ومكابرتها وانكارها اجل الحقائق. ولهذا قال تعالى قل انزله الذي يعلم السر في السماوات والارض فالرب القادر العظيم الذي احاط علمه بجميع الاسرار وعلم احوال العباد حاضرها ومستقبلها انزله لهدايتهم وجعله منارا وعلما يهتدي به المهتدون في كل وقت وحين فجميع الحقائق التي دعا اليها هذا الرسول وهذا القرآن حقائق ثابتة نافعة للعباد لا يأتي من الحقائق ما يغيرها. ومحال ان يأتي شيء اصلح منها او مثلها او يقاربها. ومن احسن من الله حكما قومي يوقنون ومن كمال علمه وقدرته انه لو تقول عليه احد بمثل هذه المقالة لعاجله بالعقوبة. فلما ايد من جاء بها بنصره وحججه وارى العباد اياته في الافاق وفي انفسهم التي يتبين بها انه الحق وما سواه ضلال علم ان هذا الرسول اصدق الخلق وانصحهم وابرهم واعلمهم واخشاهم واتقاهم لربه. وان اعدائه المكذبين له اكذب الخلق واغشهم واعظمهم جهلا وضلالا وغيا وفسادا في كل زمان ومكان ومن مكابرة اعداء الرسول انهم جعلوا يتناقضون في مقالاتهم ويتفننون في افكهم المكشوف كذبه. فمنهم من قال انه مجنون منهم من قال ساحر وكاهن ومنهم من قال مسحور ومنهم من قال لو كان صادقا لجاءت الملائكة تؤيده ولو كان صادقا لاغناه الله عن المشي في الاسواق. وجعل له جنات وانهارا واموالا كثيرة. وكل يعلم ان هذه الاقوال تناقضها ليست من الشبه فضلا عن كونها من الحجج ولهذا قال تعالى متعجبا انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا. ومثل هذه الاقوال التي يذكرها الله على المكذبين للرسول هي بنفسها تدل على كذبهم ومكابرتهم قبل ان يعرف بطلانها من الادلة الاخرى واذا وزنت هذه الاقوال الجارية من الاولين رأيت نظيرها واقبح منها جارية من الملاحدة المتأخرين ويأبى الله الا ان يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فما جاء به الرسول من الهدى في جميع ابواب العلوم النافعة الدين الحق الذي هو الصلاح المطلق اكبر الادلة على انه رسول الله حقا. واكبر الادلة على ابطال كل ما ناقضه من اقوال المؤتفكين والحمد لله رب العالمين اثنى عشر بسم الله الرحمن الرحيم نون والقلم وما يسطرون ما انت بنعمة ربك بمجنون وان لك لاجرا غير ممنون وانك لعلى خلق عظيم. فستبصر ويبصرون بايكم المفتون؟ ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله. وهو اعلم بالمهتدين يقسم الله تعالى بالقلم وهو اسم جنس شامل للاقلام التي تكتب بها انواع العلوم ويسطر بها المنثور والمنظوم وذلك ان القلم وما يسطر به من انواع الكلام من اياته العظيمة التي تستحق ان يقسم بها على براءة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مما نسبه اليه اعداءه من الجنون فنفى عنه ذلك بنعمة ربه عليه واحسانه. اذ من عليه بالعقل الكامل والرأي السديد. والكلام الفصل الذي هو من احسن ما به الاقلام وسطره الانام وهذا هو السعادة في الدنيا. ثم ذكر سعادته في الاخرة فقال وان لك لاجرا غير ممنون اي لاجرا عظيما كما يفيده التنكير غير مقطوع بل هو دائم متتابع مستمر. وذلك لما اسلفه صلى الله عليه وسلم من المقامات العالية في الدين والاخلاق الرفيعة. ولهذا قال وانك لعلى خلق عظيم. فعلى صلى الله عليه وسلم بخلقه العظيم على جميع الخلق. وفاق الاولين والاخرين. وكان فخلقه العظيم كما فسرته به عائشة رضي الله عنها هذا القرآن الكريم وذلك نحو قوله تعالى خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين. وقوله فبما رحمة من الله لنت لهم. وقوله لقد رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم وما اشبهها من الايات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الاخلاق والايات التي فيها الحث على كل خلق جميل. فكان اول الخلق امتثالا لها وسبقا اليها والى تكميلها فكان له منها اكملها واجلها واعلاها. وهو في كل خصلة منها في الذروة العليا فكان سهلا لينا قريبا من الناس. مجيبا لدعوة من دعاه. راضيا بحاجة من استقضاه. جابرا لقلب من سأله لا يحرمه ولا يرده خائبا واذا اراد اصحابه امرا وافقهم عليه تابعهم فيه اذا لم يكن في ذلك محذور. واذا عزم على امر لم يستبد به دونهم. بل يشاورهم ويامرهم وكان يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم. ولم يكن يعاشر جليسا الا اتم عشرة واحسنها فكان لا يعبس في وجهه ولا يغلظ له في كلامه ولا يطوي عنه بشرا ولا يمسك عليه فلتات لسانه ولا يؤاخذه بما تصدر منه من جفوة بل يحسن اليه غاية الاحسان. ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم فلما انزله الله باعلى المنازل كان اعداؤه يقولون انه مجنون مفتون قال فستبصر ويبصرون بايكم المفتون؟ وقد تبين انه كان اهدى الناس واكملهم وانفعهم لنفسه ولغيره. وان اعداءه اضل الناس للناس وانهم هم الذين فتنوا عباد الله واضلوهم عن سبيله. وكفى علم الله بذلك فانه المحاسب المجازي وهو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين وفيه تهديد للضالين ووعد للمهتدين وبيان لحكمة الله في هدايته من يصلح للهداية دون غيره