المكتبة الصوتية للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله الفصل الثاني. واما رؤيا الملك فانه رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف. وسبع سنبلات ان خضري يأكلهن ويستولي عليهن سبع سنبلات يابسات ضعيفات. فهالته وجمع لها كل من يظن فيه المعرفة. فلم يكن عند احد منهم علم بتعبيرها. وقالوا اضغاث احلام. وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين. وبعد بعد هذا تفطن الذي خرج من السجن لحالة يوسف وما عليه من العلم العظيم. وتفطن لوصيته التي انساه الشيطان ذكر ربه لحكمة قد فصح امرها وانه لا يخرج من السجن الا بعد اشتهاره تميزه العظيم على الناس كلهم بتعبير رؤيا الملك فطلب هذا الرجل من الملك ان يرسله الى يوسف وانه كفيل بمعرفة تفسيرها. فلما جاء يوسف فقال له يوسف ايها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات. فان الملك والناس معه ارسلوني اليك لتفسيرها لهم. وهم بانتظار ذلك متشوقين اليك فيه غاية التشوق. ولهذا قال لعلي ارجع الى الناس لعلهم يعلمون. ما اهم الملك وازعجه ولاعة؟ ففي الحال فسرها يوسف صلى الله عليه وسلم وزادهم مع التفسير حسن العمل بها وحسن التدبير. فاخبرهم ان البقرة السمان والسنان الى السبعة الخضرات هي سنون رخاء وخصب متواليات. تتقدم على السنين المجدبات. وان البقرة العجاف والسنابل اليابسات سنون جدب تليها. وان بعد هذه السنين المجدبات عاما فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. وانه ينبغي لهم في السنين المخصبات ان ينتهزوا الفرصة ويعدوا العدة للسنين الشديدات. فيزرعون زروعا هائلة ازيد بكثير كثير من المعتاد. ولهذا قال تزرعون سبع سنين دأبا. ومن المعلوم ان جميع السنين يزرع الناس. لكنه اراد منهم ان يزرعوا زروعا كثيرة ويبذلوا قواهم في كل ما يقدرون عليه. وانهم يحتاطون في الغلات اذا حصلت بالتحصين والاقتصاد فقال فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون. اي احفظوا الحاصلات من الزرع حفظا تسلم به من الفساد والسوس. بان تبقى في سنابلها. ويقتصدون في هذه المدة مدة الرخاء فلا يسرفوا في الانفاق بل يأكلون القليل ويحفظون الكثير. وان بعد هذه السنين المخصبات سيأتي سبع سنين مجدبات شديدات تشمل الديار المصرية وما حولها. وانها تأكل ما قدم لها مما حفظ في سنين الخصب الا قليلا مما صنون ووجه المناسبة انه كما تقدم ان الرؤيا تعبر بحال رائها. والمناسبات المتعلقة بها كالرائي لها الملك الذي تتعلق به اركان الرعية وامورها. ولهذا كانت رؤياه ليست خاصة له بل تشمل الناس والرعية ووجه المناسبة في تفسير البقرات والسنابل بالسنين ظاهر في البقر من وجهين. احدهما انها هي التي في الغالب يحرث عليها الارض الحروث والزروع وتوابعها تبع للسنين في خصبها وجدبها. والوجه الثاني البقر من المواشي التي سمنها وعجف تبع للسنين ايضا. فاذا اخصبت سمنت واذا اجدبت عجفت وهزلت. وكذلك السنابل تزهو الزروع وتكمل وتنمو مع كثرة الماء والسنين المخصبات. وتضعف وتيبس مع السنين المجدبات. فكانت رؤياه في البقرة والسنابل من اوصاف السنين واثارها ومن ذكر الوسائل والغايات. فالحرث للاراضي وسيلة ونمو الزرع وحصول السمن في المواشي هو الغاية من ذلك والمقصود. واما قوله ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس. وفيه يعصرون اي يحصل للناس فيه غيث مغيث تعيد الاراضي خصبها ويزول عنها جذبها وذلك مأخوذ من تقييم السنين المجدبات بالسبع. فدل هذا القيد على انه يلي هذه السبع ما يزيل شدتها ويرفع جذبها. ومعلوم ان توالي سبع سنين مجدبات لا يبقي في الارض من اثار الخضر والنبات والزروع ونحوها. لا قليلا ولا كثيرا لا يرفع هذا الجدب العظيم الا غيث عظيم. وهذا ظاهر جدا اخذه من رؤيا الملك. ومن العجيب ان جميع اسيري التي وقفت عليها لم تذكر هذا المعنى مع وضوحه. بل قالوا لعل يوسف صلى الله عليه وسلم جاءه وحي خاص فيها هذا العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. والامر لا يحتاج الى ما ذكروه بل هو ولله الحمد ظاهر من مفهوم العدد وايضا ظاهر من مفهوم السياق. فانه جعل هذا التعبير والتفسير توضيحا لرؤيا الملك. ثم اعلم ان رؤية الملك وتعبير يوسف لها وتدبيره ذلك التدبير العجيب من رحمة الله العظيمة على يوسف وعلى الملك وعلى الناس فلولا هذه الرؤيا وهذا التعبير والتدبير لهجمت على الناس السنون المجدبات قبل ان يعدوا لها عدتها. فيقع الضرر على الاقطار المصرية وعلى ما جاورها. فصار ذلك رحمة بهم وبغيرهم من الخلق. الا ترى كيف شمل الجدب البلاد مصرية وشمل البلاد الشامية وفلسطين وغيرها. حتى احتاجوا الى الاغتيال من مصر. واحتاج يوسف ان يقدر للجميع ويوزع عليهم توزيعا عادلا. فيه الرفق بالجميع والابقاء عليهم. وكان هذا العلم العظيم من يوسف هو السبب عظمة في خروجه من السجن وتقريب الملك له من اختصاصه به وتمكينه من الارض يتبوأ منها حيث يشاء. وهذا من احسانه. الله لا يضيع اجر المحسنين. ومع هذا الفضل وفضل الله اعظم من ذلك. يصيب برحمته من يشاء من يختاره ويختصه ويجمع له خير الدنيا والاخرة