يا ايها الذين امنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله ان كنتم اياه تعلمون هذا امر للمؤمنين خاصة بعد الامر العام. وذلك انهم هم المنتفعون على الحقيقة بالاوامر والنواهي بسبب ايمانهم فامرهم باكل الطيبات من الرزق. والشكر لله على انعامه باستعمالها بطاعته. والتقوي بها على ما يوصل اليه. فامرهم بما امر به المرسلون الينا في قوله يا ايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا. فالشكر في هذه الاية هو العمل الصالح. وهنا لم يقل حلالا لان المؤمن اباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة. ولان ايمانه يحجزه عن تناول ما ليس له. وقوله ان كنتم اياه تعبدون اي فاشكروه. فدل على ان من لم يشكر الله فلم يعبده وحده. كما ان من شكره فقد عبده واتى بما امر به. ويدل ايضا على ان اكل طيب سبب للعمل الصالح وقبوله والامر بالشكر عقيب النعم لان الشكر يحفظ النعم الموجودة ويجلب النعم المفقودة كما ان الكفر ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة. ولما ذكرت على اباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث. فقال فمن اضطر ان الله غفور رحيم. انما حرم اليكم الميتة وهي ما مات بغير تذكية شرعية لان الميتة خبيثة مضرة لرداءتها في نفسها. ولان الاغلب ان تكون عن مرض فيكون زيادة ضرر واستثنى الشارع من هذا العموم ميتة الجراد وسمك البحر. فانه حلال طيب والدم اي المسفوح كما قيد في الاية الاخرى وما اهل به لغير الله اي ذبح لغير الله كالذي يذبح للاصنام والاوثان من الاحجار والقبور ونحوها وهذا المذكور غير حاصل للمحرمات جيء به لبيان اجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله طيبات فعموم المحرمات تستفاد من السابقة من قوله حلالا طيبا كما تقدم. وانما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها لطفا بنا وتنزيها عن المضر ومع هذا فمن اضطر اي الجأ الى المحرم بجوع وعدم او اكراه غير باب اي غير طالب للمحرم مع قدرته على او مع عدم جوعه ولا عاد اي متجاوز الحد في تناول ما ابيح له اضطرارا. فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال واكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها فلا اثم اي جناح عليه. واذا ارتفع الجناح رجع الامر الى ما كان عليه. والانسان بهذه الحالة مأمور بالاكيد. بل منهي ان يلقي بيده الى التهلكة. وان يقتل نفسه. فيجب اذا عليه الاكل ويأثم ان ترك الاكل حتى مات فيكون قاتلا لنفسه. وهذه الاباحة والتوسعة من رحمته تعالى بعباده. فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين المناسبة فقال ان الله غفور رحيم. ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين. وكان الانسان في هذه الحالة ربما لا تقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها اخبر تعالى انه غفور. فيغفر له ما اخطأ فيه في هذه الحال. خصوصا وقد غلبته الضرورة اذهبت حواسه المشقة. وفي هذه الاية دليل على القاعدة المشهورة. الضرورات تبيح المحظورات. فكل محظور اضطر له الانسان فقد اباحه له الملك الرحمن فلله الحمد والشكر اولا واخرا. وظاهرا وباطنا ان الذين يكتمون ما انزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا اولئك لا يأكلون في بطونهم الا النار. ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ثم لهم عذاب اليم. اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما اصبرهم على النار. هذا وعيد شديد لمن كتم ما انزل الله على رسله من العلم الذي اخذ الله الميثاق على اهله ان يبينوه للناس ولا يكتموه. فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي ونبذ امر الله. فاولئك ما يأكلون في بطونهم الا النار لان هذا الثمن الذي اكتسبوه انما حصل لهم باقمح المكاسب واعظم المحرمات. فكان جزاؤهم من جنس عملهم ولا يكلمهم الله يوم يوم القيامة بل قد سخط عليهم واعرض عنهم. فهذا اعظم عليهم من عذاب النار. ولا يزكيهم اي لا يطهرهم من الاخلاق الرذيلة. وليس لهم اعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها. وانما لم يزكهم لانهم فعلوا اسباب عدم التزكية التي اعظم اسبابها العمل بكتاب الله والاهتداء به والدعوة اليه. فهؤلاء نبذوا كتاب الله واعرضوا عنه. واختاروا الضلالة على الهدى. والعذاب على المغفرة. فهؤلاء لا يصلح لهم الا النار. فكيف يصبرون عليها؟ وان لهم الجلد عليها؟ ذلك بان الله نزل الكتاب بالحق وان الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد. ذلك المذكور وهو مجازاة من عدل ومنعه اسباب الهداية. ممن اباها واختار سواها. بان الله نزل الكتاب بالحق. ومن الحق مجازاة المحسن باحسانه والمسيء باساءته. وايضا ففي قوله نزل الكتاب بالحق ما يدل على ان الله انزله لهداية خلقه. وتبيين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فمن صرفه عن مقصوده فهو حقيق بان يجازى باعظم العقوبة. وان الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ايوة ان الذين اختلفوا في الكتاب فامنوا ببعضه وكفروا ببعضه. او الذين حرفوه وصرفوه على اهوائهم ومراداتهم. لفي شقاق اي محادة بعيد عن الحق. لانهم قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للاتفاق وعدم التناقض. فمرج امرهم وكثر وترتب على ذلك افتراقهم بخلاف اهل الكتاب الذين امنوا به وحكموه في كل شيء. فانهم اتفقوا واتفقوا بالمحبة والاجتماع عليه وقد تضمنت هذه الايات الوعيدة للكاتمين لما انزل الله. المؤثرين عليه عرض الدنيا بالعذاب والسخط. وان الله لا يطهرهم بالتوفيق ولا بالمغفرة وذكر السبب في ذلك بايثارهم الضلالة على الهدى. فترتب على ذلك اختيار العذاب على المغفرة. لعملهم بالاسباب التي يعلمون انها موصلة لها. وان الكتاب مشتمل على الحق الموجب للاتفاق عليه. وعدم الافتراق. وان كل من خالفه فهو في غاية البعد عن الحق والمنازعة والمخاصمة والله اعلم لكن البر من امن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين اتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وبنى السبيل والسار وحين البأس الذين صدقوا واولئك هم المتقون. يقول تعالى ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب اي ليس هذا هو البر المقصود من العباد. فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته الا الشقاق والخلاف. وهذا نظيره قوله صلى الله عليه وسلم ليس الشديد بالسرعة انما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ونحو ذلك. ولكن البر من امن بالله اي بانه اله واحد موصوف بكل صفة كمال منزه عن كل نقص. واليوم الاخر وهو كل ما اخبر الله به في كتابه او اخبر به الرسول مما يكون بعد الموت والملائكة الذين وصفهم الله لنا في كتابه ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم والكتاب اي جنس الكتب التي انزلها الله على رسله واعظمها القرآن. فيؤمن بما تضمنه من الاخبار والاحكام. والنبيين عموما خصوصا خاتمهم وافضلهم محمد صلى الله عليه وسلم. واتى المال وهو كل ما يتموله الانسان من مال. قليلا كان او كثيرا. اي والمال على حبه اي حب المال. بين به ان المال محبوب للنفوس. فلا يكاد يخرجه العبد. فمن اخرجه مع حبه له تقربا الى الله تعالى كان هذا برهانا لايمانه. ومن ايتاء المال على حبه ان يتصدق وهو صحيح شحيح. يأمل الغنى ويخشى الفقر. وكذلك اذا كانت الصدقة عن قلة كانت افضل. لانه في هذه الحال يحب امساكه لما يتوهمه من العدم والفقر. وكذلك اخراج النفيس من المال وما يحبه من ماله. كما قال تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون. فكل هؤلاء ممن اتى المال على حبه ثم ذكر المنفق عليهم وهم اولى الناس ببرك واحسانك من الاقارب الذين تتوجع لمصابهم وتفرح بسرورهم الذين يتناصرون ويتعاقلون فمن احسن البر واوفقه. تعاهد الاقارب بالاحسان المالي والقولي. على حسب قربهم وحاجتهم. ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم وليس لهم قوة يستغنون بها. وهذا من رحمته تعالى بالعباد. الدالة على انه تعالى ارحم بعباده من الوالد بولده فالله قد اوصى العباد وفرض عليهم في اموالهم الاحسان الى من فقد اباؤهم. ليصيروا كمن لم يفقد والديه. ولان الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره رحم يتيمه. والمساكين وهم الذين اسكنتهم الحاجة واذلهم الفقر. فلهم حق على الاغنياء بما يدفع كانت لهم او يخففها بما يقدرون عليه وبما يتيسر. وابن السبيل وهو الغريب المنقطع به في غير بلده. فحث الله عباده على من المال ما يعينه على سفره. لكونه مظنة الحاجة وكثرة المصارف. فعلى من انعم الله عليه بوطنه وراحته وخوله من ان يرحم اخاه الغريب الذي بهذه الصفة على حسب استطاعته ولو بتزويده او اعطائه الة لسفره او دفع ما ينوبه من الظالم وغيرها والسائلين اي الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج توجب السؤال كمن ابتلي بارش جناية او ضريبة عليه من الامور او يسأل الناس لتعمير المصالح العامة كالمساجد والمدارس والقناطر ونحو ذلك فهذا له حق وان كان غنيا رقاب فيدخل فيه العتق والاعانة عليه. وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده. وفداء الاسرى عند الكفار او عند الظلمة. واقام الصلاة واتى الزكاة قد تقدم مرارا ان الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة. لكونهما افضل العبادات واكمل القربات. عبادات قلبية وبدنية ومالية وبهما يوزن الايمان. ويعرف ما مع صاحبه من الايقان. والموفون بعهدهم اذا عاهدوا. والعهد هو الالتزام بالزام الله او الزام العبد لنفسه فدخل في ذلك حقوق الله كلها لكون الله الزم بها عباده والتزموها ودخلوا تحت عهدتها وجب عليهم اداؤها وحقوق العباد التي اوجبها الله عليهم. والحقوق التي التزمها العبد كالايمان والنذور ونحو ذلك. والصابرين البأس اي الفقر لان الفقير يحتاج الى الصدر من وجوه كثيرة. لكونه يحصل له من الالام القلبية والبدنية المستمرة. ما لا يحصل في غيره فان تنعم الاغنياء بما لا يقدر عليه تألم. وان جاع او جاعت عياله تألم. وان اكل طعاما غير موافق لهواه تألم ان عري او كاد تألم وان نظر الى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم. وان اصابه البرد الذي لا يقدر على نفعه تألم. فكل هذه ونحوها مصائب يؤمر بالصبر عليها والاحتساب. ورجاء الثواب من الله عليها والضراء. اي المرض على اختلاف انواعه من حمى وقروح ورياح ووجع عضو. حتى الضرس والاصبع ونحو ذلك. فانه يحتاج الى الصبر على ذلك. لان النفوس تضعف والبدن يألم وذلك في غاية المشقة على النفوس. خصوصا مع تطاول ذلك فانه يؤمر بالصبر احتسابا لثواب الله تعالى وحين البأس اي وقت القتال للاعداء المأمور بقتالهم. لان الجلاد يشق غاية المشقة على النفس. ويجزع الانسان من القتل او الجراح او الاسد فاحتيج الى الصبر في ذلك احتسابا. ورجاء لثواب الله تعالى الذي منه النصر والمعونة. التي وعدها الصابرين. اولئك اي المتصلين بما ذكر من العقائد الحسنة والاعمال التي هي اثار الايمان وبرهانه ونوره. والاخلاق التي هي جمال الانسان وحقيقته الانسانية فاولئك هم الذين صدقوا في ايمانهم. لان اعمالهم صدقت ايمانهم واولئك هم المتقون. لانهم تركوا المحظور وفعلوا المأمور لان هذه الامور مشتملة على كل خصال الخير. تضمنا ولزوما. لان الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله. ولان العبادات المنصوصة عليها في هذه الاية اكبر العبادات. ومن قام بها كان بما سواها اقوم. فهؤلاء هم الابرار الصادقون المتقون. وقد علم ما رتب الله على هذه الامور الثلاثة من الثواب الدنيوي والاخروي. مما لا يمكن تفصيله في مثل هذا الموضع