ثم قال تعالى ابعضهم درجات واتينا عيسى ابن مريم البينات وايدناه بروح القدس ولو شاء البينات ولكن ان اختلفوا فمنهم من امن ومنهم من كفر ولو شاء الله يخبر تعالى انه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين الناس بايحاءه وارسالهم الى الناس ودعائهم الخلق الى الله ثم فضل بعضهم على بعض مما اودع فيه من الاوصاف الحميدة والافعال السديدة والنفع العام فمنهم من كلمه الله كموسى ابن عمران خصه بالكلام ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره. وجمع الله له من المناقب ما فاق به الاولين والاخرين. واتينا عيسى ابن مريم البينات الدالات على نبوتك وانه عبد الله ورسوله. وكلمته القاها الى مريم وروح منه. وايدناه بروح القدس. اي بالايمان واليقين الذي ايده به الله وقواه على ما امر به. وقيل ايدهم جبريل عليه السلام يلازمه في احواله. ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات الموجبة للاجتماع على الايمان ولكن اختلفوا. فمنهم من امن ومنهم من كفر. فكان موجب هذا الاختلاف التفرق المعاداة والمقاتلة. ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا فدل ذلك على ان مشيئة الله نافذة غالبة للاسباب. وانما تنفع اسباب مع عدم معارضة المشيئة. فاذا وجدت اذ محل كل سبب وزال كل موجب. فلهذا قال ولكن الله يفعل ما يريد. فارادته غالبة ومشيئته نافذة. وفي هذا ونحوه دلالة على ان الله تعالى لم يزل يفعل مقتضته مشيئته وحكمته. ومن جملة ما يفعله وما اخبر به عن نفسه واخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والاقوال والافعال التي يعبرون عنها بالافعال فائدة كما يجب على المكلف معرفته بربه. فيجب عليه معرفته برسله. ما يجب لهم ويمتنع عليهم. ويجوز في حقهم ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في ايات متعددة. منها انهم رجال لا نساء من اهل القرى لا من اهل البوادي انهم مصطفون مختارون. جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار. وانهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وعيوب مزرية وانهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف. وان الله تعالى خصهم بوحيه. فلهذا وجب الايمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر. ومن قدح في واحد منهم او سبه فهو كافر يتحتم قتله. ودلائل هذه الجمل كثيرة. من تدبر القرآن تبين له الحق. ثم قال تعالى ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون. وهذا من لطف الله بعباده ان امرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله من صدقة واجبة ومستحبة ليكون لهم ذخرا واجرا موفرا في يوم يحتاج فيه العاملون الى مثقال ذرة من الخير. فلا بيع ولو افتدى الانسان نفسه بملئ الارض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه. ولم ينفعه خليل ولا صديق لا ولا بالشفاعة وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون. ويحصل الخزي على الظالمين. وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه. فتركوا الواجب من حق الله بعباده وتعدوا الحلال الى الحرام واعظم انواع الظلم. الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين ان تكون لله. فيصرفها الكافرون والى مخلوق مثله. فلهذا قال تعالى والكافرون هم الظالمون. وهذا من باب الحصر. اي الذين ثبت لهم الظلم التام كما قال تعالى ان الشرك لظلم عظيم. ثم قال تعالى الله لا اله الا هو الحي سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون وسع كرسيه السماوات هذه الاية الكريمة اعظم ايات القرآن وافضلها واجلها. وذلك لما اشتملت عليه من الامور العظيمة والصفات الكريمة. فلهذا كثرت الاحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للانسان في اوقاته صباحا ومساء وعند نومه وادبار الصلوات المكتوبات. فاخبر تعالى عن نفسه الكريمة بانه لا لا اله الا هو اي لا معبود بحق سواه. فهو الاله الحق الذي تتعين ان تكون جميع انواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى. بكماله كمال صفاته وعظيم نعمه. ولكون العبد مستحقا ان يكون عبدا لربه. ممتثلا اوامره. مجتنبا نواهيه. وكل ما سوى الله تعالى باطل فعبادة ما سواه باطلة. لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه. فلم يستحق شيئا من انواع العبادة. وقوله الحي القيوم هذان الاسمان الكريم ان يدلان على سائر الاسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما. فالحي من له الحياة الكاملة المستحقة لجميع صفات الذات كالسمع والبصر والعلم والقدرة ونحو ذلك. والقيوم هو الذي قام بنفسه وقام بغيره. وذلك مستلزم لجميع التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والاماطة والاحياء وسائر انواع تدبير كل ذلك داخل في قيومية الباري. ولهذا قال بعض المحققين انهما الاسم الاعظم الذي اذا دعي الله به اجاب. واذا سئل به اعطى ومن تمام حياته وقيوميته انه لا تأخذه سنة ولا نوم. والسنة النعاس له ما في السماوات وما في الارض اي هو المالك وما سواه مملوء. وهو الخالق الرازق المدبر. وغيره مخلوق مرزوق مدبر. لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض. فلهذا قال من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه. اي لا احد يشفع عنده بدون اذنه. فالشفاعة كلها لله تعالى ولكنه تعالى اذا اراد ان يرحم من يشاء من عباده اذن لمن اراد ان يكرمه من عباده ان يشفع فيه. لا يبتدأ الشافع قبل الاذن ثم قال يعلم ما بين ايديهم اي ما مضى من جميع الامور وما خلفهم اي ما يستقبل منها. فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الامور متقدمها ومتأخرها بالظواهر والبواطن بالغيب والشهادة والعباد ليس لهم من الامر شيء ولا من العلم مثقال ذرة الا ما علمهم تعالى ولهذا قال ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء. وسع كرسيه السماوات والارض. وهذا يدل على كمال عظمته سلطانه اذا كان هذه حالة الكرسي انه يسع السماوات والارض على عظمتهما وعظمة من فيهما والكرسي ليس اكبر مخلوقات الله تعالى بل هنا ما هو اعظم منه وهو العرش وما لا يعلمه الا هو. وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الافكار وتكل الابصار وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال. فكيف بعظمة خالقها ومبدعها؟ والذي اودع فيها من الحكم والاسرار ما اودع الذي قد امسك السماوات والارض ان تزول من غير تعب ولا نصب. فلهذا قال ولا يؤوده اي يثقله حفظهما. وهو العليم بذاته فوق عرشه العلي بقهره لجميع المخلوقات العلي بقدره لكمال صفاته العظيم الذي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة وتصغر في جانب جلاله انوف الملوك القاهرة. فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة. والقهر والغلبة لكل شيء فقد اشتملت هذه الاية على توحيد الالهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الاسماء والصفات. وعلى احاطة ملكه واحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته. فهذه الاية بمفردها عقيدة في اسماء الله وصفاته متضمنة لجميع الاسماء الحسنى والصفات العلى ثم قال تعالى لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغير لا انفصام لها والله سميع عليم. يخبر تعالى انه لا اكراه في الدين لعدم الحاجة الى الاكراه عليه لان الاكراه لا يكون الا على امر خفيض اعلامه. غامضة اثاره او امر في غاية الكراهة للنفوس. واما هذا الدين القويم هو الصراط المستقيم فقد تبينت اعلامه للعقول وظهرت طرقه وتبين امره وعرف الرشد من الغي فالموفق اذا نظر اليه ادنى نظر اثره واختاره. واما من كان سيء القصد فاسد الارادة. خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل ويبصر الحسن. فيميل سئل القبيح فهذا ليس لله حاجة في اكراهه على الدين. لعدم النتيجة والفائدة فيه والمكره ليس ايمانه صحيحا ولا تدل الاية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين. وانما فيها ان حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله. لكل منصف قصده اتباع الحق واما القتال وعدمه فلم تتعرض له. وانما يؤخذ فرض القتال من نصوص اخر. ولكن يستدل في الاية الكريمة على قبول الجزية من غير اهل الكتاب كما هو قول كثير من العلماء فمن يكفر بالطاغوت في ترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان ويؤمن بالله ايمانا تاما اوجب له عبادة ربه وطاعته. فقد استمسك بالعروة الوثقى اي بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت اركانه. وكان المتمسك به على ثقة من امره لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. واما من عكس القضية فكفر بالله وامن بالطاغوت. فقد اطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة. واستمسك بكل باطل مآله الى الجحيم. والله سميع عليم. فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منه من الخير والشر وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها. ثم ذكر السبب الذي اوصلهم الى ذلك فقال ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات الى النور. والذين كفروا اولياء آآ هم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات الله ولي الذين امنوا. وهذا يشمل ولايتهم لربهم بان تولوه فلا يبغون عنه بدلا. ولا يشركون به احدا. قد اتخذوه حبيبا ووليا ووالوا اولياءه وعادوا اعداءه. فتولاهم بلطفه ومن عليهم باحسانه. فاخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل الى نور الايمان والطاعة والعلم. وكان جزاؤهم على هذا ان سلمهم من ظلمات القبر. والحشر والقيامة الى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور والذين كفروا اولياؤهم الطاغوت فتولوا الشيطان وحزبه واتخذوه من دون الله وليا. ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم فسلطهم عليه عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم الى المعاصي ازا ويزعجونهم الى الشر ازعاجا فيخرجونهم من نور الايمان والعلم والطاعة الى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي. فكان جزاؤهم على ذلك ان حرموا الخيرات. وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات. وكانوا من حزب الشيطان في دار الحسرة. فلهذا قال تعالى اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون آآ يا ابراهيم في ربه ان اتاه الله الملك اذ قال ابراهيم ربي الذي يحيين قال ابراهيم والله لا يهدي القوم الظالمين. يقول تعالى الم تر الى الذي حاج ابراهيم في ربه اي الى جرائته وتجاهله وعناده ومحاجاته فيما لا يقبل التشكيك. وما حمله على ذلك الا الى ان اتاهم الله الملك فطغى وبغى ورأى نفسه متراسا على رعيته فحمله ذلك على ان حاج ابراهيم في ربوبية الله زعم انه يفعل كما يفعل الله. فقال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت. ايه هو المنفرد بانواع التصرف. وخص منه الاحياء والاماتة لكونهما اعظم انواع التدبير. ولان الاحياء مبدأ الحياة الدنيا والاماتة مبدأ ما يكون في الاخرة. فقال ذلك المحاج احيي واميت ولم يقل انا الذي احيي واميت. لانه لم يدعي الاستقلال بالتصرف. وانما زعم انه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه زعم انه يقتل شخصا فيكون قد اماته. ويستبقي شخصا فيكون قد احياه. فلما رآه ابراهيم يغالط في مجادلته. ويتكلم بشيء لا يصلح ان يكون شبهة فضلا عن كونه حجة اضطرد معه في الدليل فقال ابراهيم فان الله يأتي بالشمس من المشرق اي عيان يقر به كل احد حتى ذلك الكافر. فات بها من المغرب. وهذا الزام له بطرد دليله ان كان صادقا في دعواه ما قال له امرا لا قوة له في شبهة تشوش دليله. ولا قادحا يقدح في سبيله بهت الذي كفر. اي تحير فلم يرجع اليه جواب وانقطعت حجته وسقطت شبهته. وهذه حالة المبطل المعاند. الذي يريد ان يقاوم الحق ويغالبه. فانه مغلوب المقهور. فلهذا قال تعالى والله لا يهدي القوم الظالمين. بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم. وهم الذين اختاروا لانفسهم ذلك والا فلو كان قصدهم الحق والهداية لهداهم اليه ويسر لهم اسباب الوصول اليه. فبهذه الاية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق تدبير ويلزم من ذلك ان يفرد بالعبادة والانابة والتوكل عليه في جميع الاحوال. قال ابن القيم رحمه الله وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا وهي ان شرك العالم انما هو مستند الى عبادة الكواكب والقبور. ثم صورت الاصنام على صورها. فتضمنت دليلان اللذان استدل بهما ابراهيم ابطال الهية تلك جملة بان الله وحده هو الذي يحيي ويميت. ولا يصلح الحي الذي يموت الالهية لا في حال حياته ولا بعد موته. فان له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه احياء واماتة. ومن كان كذلك فكيف كيف يكون الها حتى يتخذ الصنم على صورته؟ ويعبد من دونه. وكذلك الكواكب اظهرها واكبرها للحس هذه الشمس. وهي مربوبة مدبرة مسخرة لا تصرف لها بنفسها بوجه ما. بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها. فتنقاد لامره ومشيئته فهي مربوبة مسخرة مدبرة لا اله يعبد من دون الله. ثم قالت تعالى او كالذي مر على قرية مئة عام فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه. وانظر الى حمارك ولنجعلك وهذا ايضا اخر على توحيد الله بالخلق والتدبير والاماتة والاحياء. فقال او كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها. اي قد باد اهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها فلم يبق بها انيس. بل بقيت موحشة من اهلها مقفرة. فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا وقال ان يحيي هذه الله بعد موتها استبعادا لذلك وجهلا بقدرة الله تعالى. فلما اراد الله به خيرا اراه اية في نفسه وفي حماره وكان معه طعام وشراب. فاماته الله مئة عام ثم بعثه. قال كم لبثت؟ قال لبثت يوما او بعض يوم لتلك المدة التي مات فيها. لكونه قد زالت معرفته وحواسه. وكان عهد حاله قبل موته. فقيل له بل لبثت مئة عام انظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه. اي لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين. واختلاف الاوقات عليه. ففيه اكبر دليل على قدرته حيث ابقاه وحفظه عن التغير والفساد. مع ان الطعام والشراب من اسرع الاشياء فسادا. وانظر الى حمارك. وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه وتفرقت اوصاله. ولنجعلك اية للناس على قدرة الله وبعث الاموات من قبورهم. لتكون انموذجا محسوسا بالابصار فيعلم بذلك صحة ما اخبرت به الرسل. وانظر الى العظام كيف ننجزها اي ندخل بعضها في بعض ونركب بعضها ببعض ثم نكسوها لحما فنظر اليها عيانا كما وصفها الله تعالى. فلما تبين له ذلك وعلم قدرة الله تعالى قال اعلم ان الله على كل شيء قدير. والظاهر من سياق الاية ان هذا رجل منكر للبعث اراد الله به خيرا. وان يجعله اية ودليلا للناس ثلاثة اوجه احدها قوله انى يحيي هذه الله بعد موتها ولو كان نبيا او عبدا صالحا لم يقل ذلك. والثاني ان الله اراه اية في طعامه وشرابه وحماره ونفسه. ليراه بعينه فيقر بما انكره. ولم يذكر في الاية ان القرية المذكورة عمرت وعادت الى حال ولا في السياق ما يدل على ذلك ولا في ذلك كثير فائدة. ما الفائدة الدالة على احياء الله للموتى؟ في قرية خربت ثم رجع اليها اهل او غيرهم فعمروها وانما الدليل الحقيقي في احياءه واحياء حماره وابقاء طعامه وشرابه بحاله. والثالث في فلما تبين له اي تبين له امر كان يجهله ويخفى عليه. فعلم بذلك صحة ما ذكرناه. والله اعلم. ثم قال تعالى واذ قال ابراهيم ربي ارني كيف تحيي الموتى؟ قال او لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل تعلم ان الله عزيز حكيم. وهذا فيه ايضا اعظم دلالة حسية على قدرة الله واحيائة الموتى والجزاء. فاخبر تعالى عن خليله ابراهيم انه سأله ان يريه ببصره كيف يحيي الموتى؟ لانه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى ولكنه احب ان يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين. فلهذا قال الله له او لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن ان قلبي وذلك انه بتوارد الادلة اليقينية مما يزداد به الايمان ويكمل به الايقان ويسعى في نيله اولو العرفان. فقال له فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك. اي ضمهن ليكون ذلك بمرئى منك ومشاهدة وعلى يديك. ثم اجعل على كل جبل منهن اي مزقهن اخلط اجزائهن بعضها ببعض. واجعل على كل جبل اي من الجبال التي في القرب منه. جزءا من تلك الاجزاء. ثم ادعوهن سيأتينك سعيا اي تحصل لهن حياة كاملة. ويأتينك بهذه القوة وسرعة الطيران. ففعل ابراهيم عليه السلام ذلك. وحصل له ما اراد وهذا من ملكوت السماوات والارض الذي اراه الله اياه في قوله. وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والارض. وليكون من الموقنين. ثم قال واعلم ان الله عزيز حكيم. اي ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات فلم يستعص عليه شيء منها. بل هي منقادة لعزته لجلاله ومع ذلك فافعاله تعالى تابعة لحكمته. لا يفعل شيئا عبثا. ثم قال تعالى اموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة والله واسع عليم بيان للمضاعفة التي ذكرها الله في قوله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة. وهنا قال مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله اي في طاعته ومرضاته. واولاها انفاقها في الجهاد في سبيله. كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة وهذا احضار لصورة المضاعفة بهذا المثل. الذي كان العبد يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته. فيقوى الايمان مع شاهد العيان. فتنقاد النفس مذعنة للانفاق. سامحة بها مؤمنة لهذه المضاعفة الجزيلة. والمنة الجليلة. والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء. اي بحسب حال المنفق واخلاصه وصدقه. وبحسب حال النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها ان يكون والله يضاعف اكثر من هذه المضاعفة لمن يشاء فيعطيهم اجرهم بغير حساب. والله واسع الفضل واسع العطاء لا ينقصه نائل ولا يحفيه سائل. فلا يتوهم المنفق ان تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة. لان الله تعالى لا يتعاظمه شيء. ولا ينقصه العطاء على كثرته. ومع هذا فهو عليم بمن يستحق هذه المضاعفة. ومن لا يستحقها. فيضع المضاعفة في موضعها كمال علمه وحكمته اموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا ما من ولا اذى لهم اجرهم اي الذين ينفقون اموالهم في طاعة الله وسبيله. ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها على المنفق عليه بالقلب او باللسان. بان يعدد عليه احسانه ويطلب منه ومقابلته ولا اذية له قولية او فعلية. فهؤلاء لهم اجرهم اللائق بهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فحصل لهم الخير واندفع عنهم الشر لانهم عملوا عملا خالصا لله سالما من المفسدات قول معروف اي تعرفه القلوب ولا تنكره ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه ادخال السرور على قلب المسلم. ويدخل فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له. ومغفرة لمن اساء اليك بترك مؤاخذته والعفو عنه. ويدخل في العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي. فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها اذى. لان القول المعروفة احسان قولي والمغفرة احسان ايضا لترك المؤاخذة وكلاهما احسان لما فيه مفسد فهما افضل من الاحسان بالصدقة التي يتبعها اذى بمن او غيره. ومفهوم الاية ان الصدقة التي لا يتبعها اذى. افضل من القول المعروف والمغفرة. وانما كان المن بالصدقة مفسدا محرما لان المنة لله تعالى وحده. والاحسان كله لله. فالعبد لا يمن بنعمة الله واحسانه وفضله. وهو ليس منه. وايضا سلمان مستعبد لمن يمن عليه. والذل والاستعباد لا ينبغي الا لله. والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته. وكلها مفتقرة اليه بالذات في جميع الحالات والاوقات. فصدقتكم وانفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها اليكم ونفعها اليكم. والله غني عنها. ومع هذا فهو حليم على من عصاه لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه. ولكن رحمته واحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين بل يمهلهم ويصرف لهم الايات لعلهم يرجعون اليه وينيبون اليه. فاذا علم تعالى انه لا خير فيهم ولا تغني عنهم الايات. ولا بهم المثلات انزل بهم عقابه وحرمهم جزيل ثوابه ولا يؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فاصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على ينهى عباده تعالى لطفا بهم ورحمة عن ابطال بالمن والاذى. ففيه ان المن والاذى يبطل الصدقة. ويستدل بهذا على ان الاعمال السيئة تبطل الاعمال الحسنة. كما قال تعالى ولا له بالقول كجهر بعضكم لبعض. ان تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون. فكما ان الحسنات يذهبن السيئات. فالسيئات تبطل ما قابلها من حسنات وفي هذه الاية مع قوله تعالى ولا تبطلوا اعمالكم حث على تكميل الاعمال وحفظها من كل ما يفسدها لان لا يضيع سدى وقوله كالذي ينفق ما له رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر. اي انتم وان قصدتم بذلك وجه الله في ابتداء الامر. فان المنة والاذى مبطلان لاعمالكم. فتصير اعمالكم بمنزلة الذي يعمل لامراءات الناس. ولا يريد به الله والدار الاخرة. فهذا لا شك ان له من اصله مردود. لان شرط العمل ان يكون لله وحده. وهذا في الحقيقة عمل للناس لا لله. فاعماله باطلة وسعيه غير مشكور. فمثلا المطابق لحاله كمثل صفوان. وهو الحجر الاملس الشديد. عليه تراب فاصابه وابل. اي مطر غزير. فتركه صلدا. اي ليس فعليه شيء من التراب فكذلك حال هذا المرائي قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان وصدقته ونحوها من اعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان اذا رآه الجاهل بحاله ظن انه ارض ذكية قابلة للنبات. فاذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين ان ان عملهم بمنزلة السراب وان قلبه غير صالح لنبات الزرع وزكائه عليه. بل الرياء الذي فيه والايرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء شيء من عمله فلهذا لا يقدرون على شيء من اعمالهم التي اكتسبوها لانهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها لمخلوق مثلهم ولا يملك لهم ضررا ولا نفعا. وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم عبادته. فصرف الله قلوبهم عن الهداية. فلهذا قال والله لا يهدي القوم الكافرين ومثل الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من انفسهم كمثل جنة كمثل جنة بربوة اصابها وابل فاتت اكلها فان لم يصبها وابل فصلوا والله بما تعملون بصير هذا مثل المنفقين اموالهم على وجه تزكو عليه نفقاتهم. وتقبل به صدقاتهم. فقال الله تعالى ومثل الذين ينفقون اموالهم وابتغاء مرضات الله. اي قصدهم بذلك رضا ربهم والفوز بقربه. وتثبيتا من انفسهم اي صدر الانفاق على وجه المنشرحة له النفس سخية به لا على وجه التردد وضعف النفس في اخراجها. وذلك ان النفقة يعرض لها افتان. اما ان يقصد الانسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء او يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد. فهؤلاء سلموا من هاتين الافتين. فانفقوا ابتغاء مرضات الله. لا لذلك من المقاصد وتثبيتا من انفسهم فمثل نفقة هؤلاء كمثل جنة اي كثيرة الاشجار غزيرة الظلال من الاتنان وهو الستر لستر اشجارها ما فيها. وهذه الجنة بربوة اي محل مرتفع ضاح للشمس في اول النهار. ووسطه واخره. فثماره واكثر الثمار واحسنها ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس فاصابها اي تلك الجنة التي بربوع وابل وهو المطر الغزير اتت اكلها ضعفين. اي تضاعفت ثمراتها لطيب ارضها ووجود الاسباب الموجبة لذلك. وحصول الماء الكثير الذي ينميها ويكملها. فان لم يصبها وابل فطل. اي مطر قليل يكفيها لطيب منبتها. فهذه حالة المنفقين. اهل النفقات الكثيرة والقليلة. كل على حسب بحاله وكل ينما له ما انفق اتم تنمية واكملها. والمنمي لها هو الذي ارحم بك من نفسك. الذي يريد مصلحتك حيث لا تريدها. فيا لله لو قدر وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لاسرعت اليه الهمم. وتزاحم عليه كل احد ولحصل الاقتتال عنده مع انقضاء هذه الدار وفنائها وكثرة افاتها وشدة نصبها وعنائها. وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر اليه اين بصيرة الايمان؟ دائم مستمر. فيه انواع المسرات والفرحات. ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة. والعزائم عن طلبه خامدا اترى ذلك زهدا في الاخرة ونعيمها؟ ام ضعف ايمان بوعد الله ورجاء ثوابه؟ والا فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر الايمان به بشاشة قلبه لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق اليه وتوجهت همم عزائمه اليه وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء ولهذا قال تعالى والله بما تعملون بصير. فيعمل عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل. فيجازيه عليه اتم الجزاء ثم قال تعالى كل الثمرات واصابه الكبر وله ذليته اعصار فيه نار. فاصابها اعصار فيه نار وهذا المثل مضروب لمن عمل عملا لوجه الله تعالى. من صدقة او غيرها ثم عمل اعمالا تفسده. فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما. لكونهما غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى. وتلك الجنة فيها الانهار الجارية التي تسقيها من غير مؤنة. وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته. ثم انه اصابه الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه. وكان له ذرية كن ضعفاء ما فيهم معاونة له. بل هم كل عليه ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة. فبينما هو كذلك اذ اصاب تلك الجنة اعصار وهو الريح القوية التي تستدير. ثم ترتفع في الجو وفي ذلك الاعصار نار. فاحترقت تلك الجنة. فلا تسأل عما لقي ذلك الذي اصابه الكبر من الهم والغم والحزن. فلو قدر ان الحزن يقتل صاحبه لقتله الحزن. كذلك من عمل عملا لوجه الله فان اعماله بمنزلة البذر للزروع ثمار ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء. وتلك المفسدات التي تفسد الاعمال بمنزلة الاعصار الذي فيه نار والعبد احوج ما يكون لعمله اذا مات. وكان بحالة لا يقدر معها على العمل. فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا ووجد الله عنده فوفاه حسابه. والله سريع الحساب. فلو علم الانسان وتصور هذه الحال وكان له ادنى مسكة من عقل. لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته. ولكن ضعف الايمان والعقل وقلة البصيرة. يصير صاحبه الى هذه الحالة. التي لو صدرت من مجنون لا اعقل لكان ذلك عظيما. وخطره جسيما. فلهذا امر تعالى بالتفكر وحث عليه فقال كذلك يبين الله لكم الايات لعلكم تتفكرون ما اخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم واعلموا ان الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيب ذات ما يسر لهم من المكاسب ومما اخرج لهم من الارض فكما من عليكم بتسهيل تحصيله. فانفقوا منه شكرا لله واداء لبعض حقوق اخوانكم عليكم وتطهيرا لاموالكم. واقصدوا في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لانفسكم. ولا تيمموا الردي الذي لا ترغبونه ولا الا على وجه الاغماض والمسامحة. واعلموا ان الله غني حميد. فهو غني عنكم. ونفع صدقاتكم واعمالكم عائد اليكم. ومع هذا فهو حميد على ما يأمركم به من الاوامر الحميدة والخصال السديدة. فعليكم ان تمتثلوا اوامره لانها قوت القلوب وحياة النفوس نعيم الارواح واياكم ان تتبعوا عدوكم الشيطان. الذي يأمركم بالامساك ويخوفكم بالفقر والحاجة اذا انفقتم. وليس هذا نصحا لكم بل هذا غاية الغش انما يدعو حزبه ليكونوا من اصحاب السعير. بل اطيعوا ربكم الذي يأمركم بالنفقة على وجه يسهل عليكم ولا يضركم ومع هذا فهو يعدكم مغفرة لذنوبكم وتطهيرا لعيوبكم وفضلا واحسانا اليكم في الدنيا والاخرة. من الخلف العاجل وانشراح الصدر ونعيم القلب والروح والقبر. وحصول ثوابها وتوفيتها يوم القيامة. وليس هذا عظيما عليه. لانه واسع الفضل عظيم الاحسان علموا بما يصدر منكم من النفقات قليلها وكثيرها سرها وعلنها. فيجازيكم عليها من سعته وفضله واحسانه. فلينظر العبد نفسه الى اي الداعيين يميل؟ فقد تضمنت هاتان الايتان امورا عظيمة. منها الحث على الانفاق ومنها بيان الاسباب الموجبة لذلك ومنها وجوب الزكاة من النقدين وعروض التجارة كلها. لانها داخلة في قوله من طيبات ما كسبتم. ومنها وجوب الزكاة في الخارج من الارض من الحبوب والثمار والمعادن. ومنها ان الزكاة على من له الزرع والثمر لا على صاحب الارض. لقوله اخرجنا لكم فمن اخرجت له وجبت عليه. ومنها ان الاموال المعدة للاقتناء من العقارات والاواني ونحوها ليس فيها زكاة. وكذلك الديون والغصوب ونحوهما اذا كانت مجهولة او عند من لا يقدر ربها على استخراجها منه ليس فيها زكاة لان الله اوجب النفقة من الاموال التي يحصل فيها النماء والخارج من الارض واموال التجارة مواساة من نمائها. واما الاموال التي غير معدة لذلك ولا مقدورا عليها. فليس فيها هذا المعنى منها ان الرديء ينهى عن اخراجه. ولا يجزئ في الزكاة. ثم قال تعالى يؤتي الحكمة من يشاء آآ ومن يؤتى الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا. فقد اوتي خيرا لما امر تعالى بهذه الاوامر العظيمة التي على الاسرار والحكم وكان ذلك لا يحصل لكل احد. بل لمن من الله عليه واتاه الله الحكمة. وهي العلم النافع والعمل الصالح. ومعرفة الشرائع وحكمها وان من اتاه الله الحكمة فقد اتاه خيرا كثيرا. واي خير اعظم من خير فيه سعادة الدارين. والنجاة من شقاوتهما وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الانبياء. فكمال العبد متوقف على الحكمة. اذ كماله بتكميل قوتيه العلمي والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به. وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر. وبذلك تمكنوا من الاصابة بالقول والعمل وتنزيل الامور منازلها في نفسه وفي غيره. وبدون ذلك لا يمكنه ذلك. ولما كان الله تعالى قد فطر عباده وعلى عبادته ومحبة الخير والقصد للحق. فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم. ومفصلين لهم ما لم يعرفوه. ان الناس قسمين قسم اجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه. وما يضرهم فتركوه. وهؤلاء هم اولو الالباب الكاملة والعقول التامة وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم بل اجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد. وتركوا طاعة رب العباد. فهؤلاء ليسوا من اولي الالباب. فلهذا قال تعالى وما يذكر الا اولو الالباب ان الله يعلم وما للظالمين من انصار. وهذا فيه المجازاة على النفقات واجبها ومستحبها قليلها وكثيرها التي امر الله بها والنذور التي الزمها المكلف نفسه. وان الله تعالى يعلمها فلا يخفى عليه منها شيء. ويعلم وما صدرت عنه هل هو الاخلاص او غيره؟ فان صدرت عن اخلاص وطلب لمرضاة الله جازى عليها بالفضل العظيم والثواب الجسيم. وان لم ينفق العبد ما فعليه من النفقات ولم يوفي ما اوجبه على نفسه من المنظورات او قصد بذلك رضا المخلوقات فانه ظالم قد وضع الشيء في غير موضعه واستحق حق العقوبة البليغة ولم ينفعه احد من الخلق ولم ينصره. فلهذا قال وما للظالمين من انصار سيئاتكم والله بما تعملون خبير. اي ان تبدوا الصدقات فتظهروها كونوا على نية حيث كان القصد بها وجه الله فنعماه. اي في نعم الشيء هي لحصول المقصود بها. وان تخفوها اي تسروها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم. ففي هذا ان صدقة السر على الفقير افضل من صدقة العلانية. واما اذا لم تؤتى الصدقات الفقراء فمفهوم الاية ان السر ليس خيرا من العلانية. فيرجع في ذلك الى المصلحة. فان كان في اظهارها اظهار شعائر الدين وحصول الاقتداء ونحوه فهو افضل من الاسرار. ودل قوله وتؤتوها الفقراء على انه ينبغي للمتصدق ان يتحرى بصدقته المحتاجين. ولا يعطي محتاجا وغيره احوج منه. ولما ذكر تعالى ان الصدقة خير للمتصدق. ويتضمن ذلك حصول الثواب. قال ويكفر عنكم من سيئاتكم. ففيه دفع العقاب والله بما تعملون خبير من خير وشر قليل وكثير. والمقصود من ذلك المجازاة. ليس عليك هداهم وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله. وما تنفقوا من خير يوفى اليكم وانتم لا تظلمون. يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس عليك هدى الخلق وانما عليك البلاغ المبين. والهداية بيد الله تعالى ففيه دلالة على ان النفقة كما تكون على المسلم تكون على الكافر ولو لم يهتدي فلهذا قال وما تنفقوا من خير اي قليل او كثير على اي شخص كان من مسلم وكافر فلانفسكم اي نفعه راجع اليكم وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله هذا اخبار عن نفقات المؤمنين الصادرة عن ايمانهم انها لا تكون الا لوجه الله تعالى. لان ايمانهم يمنعهم عن المقاصد الردية ويوجب لهم الاخلاص. وما تنفقوا من خير يوفى اليكم يوم القيامة. تستوفون اجوركم وانتم لا تظلمون. اي تنقصون من اعمالكم ولا مثقال ذرة كما لا يزاد في سيئاتكم. ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم اولى الناس بها ان الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض. يحسبهم الجاهل اغنياء آآ انفقوا من خير فان الله به عليم. فوصفهم بست صفات احدها الفقر. والثاني قوله احصروا في سبيل الله اي قصروها على طاعة الله من جهاد وغيره. فهم مستعدون لذلك محبوسون له. الثالث عجزهم عن الاسفار طلب الرزق فقال لا يستطيعون ضربا في الارض اي سفرا للتكسب. الرابع قوله يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف وهذا بيان لصدق صدرهم وحسن تعففهم. الخامس انه قال تعرفهم بسيماهم. اي بالعلامة التي ذكر الله في وصفهم. وهذا الا ينافقونه يحسبهم الجاهل اغنياء. فان الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم عليه. واما الفطن المتفرس فبمجرد لما يراهم يعرفهم بعلامتهم. السادس قوله لا يسألون الناس الحافا. اي لا يسألونهم سؤال الحاف. اي الحاح. بل ان صدر منهم سؤال اذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا. فهؤلاء اولى الناس واحقهم بالصدقات. لما وصفهم به من جميل الصفات. واما النفقة حيث هي على اي شخص كان فهي خير واحسان. وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر. فلهذا قال وما تنفقوا من خير فان الله به ثم ذكر حالة المتصدقين في جميع الاوقات على جميع الاحوال فقال الذين ينفقون اموالهم في الليل والنهار سرا وعلانية فلهم اجرهم. فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله. اي طاعته وطريق مرضاته. لا في المحرمات والمكروهات وشهوات انفسهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم اجرهم عند ربهم اي اجر عظيم من خير عند الرب ولا خوف عليهم اذا خاف المقصرون ولا هم يحزنون اذا حزن المفرطون. ففازوا بحصول المقصود المطلوب ونجوا من والمرهوب ولما كمل تعالى حالة المحسنين الى عباده بانواع النفقات. ذكر حالة الظالمين المسيئين اليهم غاية الاساءة. فقال الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من ذلك وامره الى الله ومن عاد فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون يخبر تعالى عن اكلة الربا وسوء مآله والشدة منقلبهم انهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس اي يصرعه الشيطان بالجنون فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين. متوقعين لعظيم النكال وعسر الوباد كما تقلبت عقولهم وقالوا انما البيع مثل الربا. وهذا لا يكون الا من جاهل عظيم جهله. او متجاهل عظيم عناده. جازاهم الله ومن جنس احوالهم فصارت احوالهم احوال المجانين. ويحتمل ان يكون قوله لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس انه لما سلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت احلامهم وضعفت ارائهم وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في بانتظامها وانسلاب العقل الادبي عنهم. قال الله تعالى ردا عليهم ومبينا حكمته العظيمة. واحل الله البيع اي لما فيه من عموم المصلحة من شدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه. وهذا اصل في حل جميع انواع التصرفات الكسبية. حتى يرد ما يدل على المنع وحرم الربا لما فيه من الظلم وسوء العاقبة والربا نوعان ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة ومنه جعل ما في الذمة رأس مال وربا فضل وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا. وكلاهما محرم بالكتاب والسنة. والاجماع على ربا النسيئة. وشذ من ابا حليب الفضل وخالف النصوص المستفيضة. بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها. فمن جاءه موعظة من ربه. اي وعظ وتذكير عن تعاطي الربا على يد من قيده الله لموعظته. رحمة من الله بالموعوظ واقامة للحجة عليه. فانتهى عن فعله. وانزجر عن تعاطيه فله ما سلف. اي ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل ان تبلغه الموعظة. جزاء لقبوله للنصيحة. دل مفهوم الاية ان من لم ينتهي جوزيا بالاول والاخر وامره الى الله في مجازاته وفيما يستقبل من اموره ومن عاد الى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة بل اصر على ذلك فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون. اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد اهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله. والاحسن فيها ان يقال هذه الامور التي رتب الله عليها الخلود في النار. موجبات ومقتضيات لذلك. ولكن الموجب ان لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه. وقد علم بالكتاب والسنة واجماع سلف الامة ان التوحيد والايمان مانع من الخلود في النار. فلولا ما مع الانسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره. ثم قال تعالى صدقات والله لا يحب كل كفار اسير يمحق الله الربا ان يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا. فيكون سببا لوقوع الافات فيه. ونزع البركة عنه. وان انفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادا له الى النار ويربي الصدقات ان ينميها وينزل البركة في المال الذي اخرجت منه وينمي اجر صاحبها وهذا لان الجزاء من جنس العمل فان المرابي قد ظلم الناس واخذ اموالهم على وجه غير شرعي فجوزي بذهاب ماله والمحسن اليهم بانواع الاحسان ربه اكرم فيحسن عليه كما احسن على عباده. والله لا يحب كل كفار لنعم الله. لا يؤدي ما اوجب عليه من الصدقات. ولا يسلم منه ومن شره عباد الله اثيم اي قد فعل ما هو سبب لاثمه وعقوبته. لما ذكر اكلة الربا وكان من المعلوم انهم لو كانوا مؤمنين ايمانا ينفعهم لم يصدر منه ما صدر. ذكر حالة المؤمنين واجرهم وخاطبهم بالايمان. ونهاهم عن اكل الربا ان كانوا مؤمنين. يا ايها الذين امنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين. اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين. فان لم تفعلوا فاذنوا بحرب فان لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. وهؤلاء هم الذين يقبلون موعظة وينقادون لامره وامرهم ان يتقوه. ومن جملة تقواه ان يذروا ما بقي من الربا. اي المعاملات الحاضرة الموجودة. واما ما سلف فمن اتعظ عفا الله عنه ما سلف واما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل نصيحته فانه مشاق لربه محارب له. وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم. الذي يمهل للظالم ولا يهمله. حتى اذا اخذه اخذه اخذ عزيز مقتدر. وان تبتم عن ربا فلكم رؤوس اموالكم. اي انزلوا عليها لا تظلمون من عاملتموه باخذ الزيادة التي هي الربا. ولا تظلمون بنقص رؤوس اموالكم وان كان وان كان المدين ذو عسرة لا يجد وفاء فنظرة الى ميسرة وهذا واجب عليه ان ينظره حتى يجد انما يوفي به وان تصدقوا خير لكم ان كنتم تعلمون. اما باسقاطها او بعضها. واتقوا يوما ترجعون فيه وهذه الاية من اخر ما نزل من القرآن وجعلت خاتمة لهذه الاحكام والاوامر والنواهي. لان فيها الوعد على الخير والوعيد على فعل الشر وان من علم انه راجع الى الله فمجازيه على الصغير والكبير والجلي والخفي. وان الله لا يظلمه مثقال ذرة. اوجب له الرغبة والرهبة وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل الى ذلك يا ايها الذين امنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم فليكتب ولا يأبى الشهداء اذا ما دعوا ولا ان لا تغتابوا الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم. فليس عليكم ولا كاتب واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم. هذه اية الدين وهي اطول ايات القرآن. وقد اشتملت على احكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار. احدها انه تجوز انواع المداينات من سلم وغيره. لان الله اخبر عن المداينة التي عليها المؤمنون مقرر لها ذاكرا لاحكامها وذلك يدل على الجواز الثاني والثالث انه لابد للسلم من اجل وانه لا بد ان يكون من المعلومة فلا يصح حالا ولا الى اجل مجهول. الرابع الامر بكتابة جميع عقود المداينات. اما وجوبا واما استحبابا من شدة الحاجة الى كتابتها لانها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم. الخامس امر الكاتب ان يكتب السادس ان يكون عدلا في نفسه لاجل اعتبار كتابته. لان الفاسق لا يعتبر قوله ولا كتابته. السابع انه يجب عليه العدل بين فلا يميل لاحدهما لقرابة او صداقة او غير ذلك. الثامن ان يكون الكاتب عارفا بكتابة الوثائق. وما يلزم فيها كل واحد منهم وما يحصل به التوثق لانه لا سبيل الى العدل الا بذلك. وهذا مأخوذ من قوله وليكتب بينكم كاتم بالعدل. التاسع اذا وجدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة يعمل بها ولو كان هو الشهود قد ماتوا العاشر قوله ولا يأبى كاتب ان يكتب اي لا يمتنع من من الله عليه بتعليمه الكتابة. ان يكتب بين المتدينين. فكما احسن الله اليه بتعليمه. فليحسن الى عباد الله المحتاجين اهتدينا الى كتابته ولا يمتنع من الكتابة لهم. الحادي عشر امر الكاتب الا يكتب الا ما املاه من عليه الحق. الثاني عشر ان الذي يملي من المتعاقدين من عليه الدين. الثالث عشر امره ان يبين جميع الحق الذي عليه. ولا يبخس منه شيئا. الرابع عشر ان اقرار الانسان على نفسه مقبول. لان الله امر من عليه الحق ان يمل على الكاتب. فاذا كتب اقراره بذلك ثبت موجبه ومضمونه. وهو ما اقر به على نفسه ولو ادعى بعد ذلك غلطا او سهوا. الخامس عشر ان من عليه حقا من الحقوق التي البينة على مقدارها وصفتها. من كثرة وقلة وتأجيل ان قوله هو المقبول دون قول من له الحق. لانه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي عليه. الا ان قوله مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته السادسة عشر انه يحرم على من عليه حق من الحقوق ان يبخس وينقص شيئا من مقداره او طيبه او حسنه او او اجله او غير ذلك من توابعه ولواحقه. السابع عشر ان من لا يقدر على املاء الحق لصغره او سفهه او خرسه. او نحو ذلك فانه ينوب وليه منابه في الاملاء والاقرار. الثامن عشر انه يلزم الولي من العدل ما يلزم من عليه الحق من العدل. وعدم البخس لقوله العدل التاسع عشر انه يشترط عدالة الولي لان الاملاء بالعدل المذكور لا يكون من فاسق. العشرون ثبوت الولاية في الاموال الحادي والعشرون ان الحق يكون على الصغير والسفيه والمجنون والضعيف لا على وليهم. الثاني والعشرون ان اقرار الصغير والسفيه النون والمعتوه ونحوهم وتصرفهم غير صحيح. لان الله جعل الاملاء لوليهم ولم يجعل لهم منه شيئا لطفا بهم ورحمة. خوفا من تلافي اموالهم الثالث والعشرون صحة تصرف الولي في مال من ذكر. الرابع والعشرون فيه مشروعية كون الانسان يتعلم الامور التي يتوثق بها بها المتابعينون كل واحد من صاحبه. لان المقصود من ذلك التوثق والعدل. وما لا يتم المشروع الا به فهو مشروع. الخامس والعشرون ان تعلم الكتابة مشروع. بل هو فرض كفاية. لان الله امر بكتابة الديون وغيرها. ولا يحصل ذلك الا بالتعلم. السادس والعشرون انه مأمور بالاشهاد على العقود. وذلك على وجه الندب. لان المقصود من ذلك الارشاد الى ما يحفظ الحقوق. فهو عائد لمصلحة المكلفين. نعم ان كان المتصرف ولي يتيم او وقف ونحو ذلك مما يجب حفظه. تعين ان يكون الاشهاد الذي به يحفظ الحق واجبا. السابع والعشرون ان الشهادة في الاموال ونحوها رجلان او رجل وامرأتان. ودلت السنة ايضا انه يقبل الشاهد مع يمين المدعي. الثامن والعشرون ان شهادة الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل. التاسع والعشرون ان شهادة النساء منفردات في الاموال ونحوها لا تقبل. لان الله لم يقبلهن الا مع الرجل. وقد يقال ان الله اقام المرأتين مقام رجل. للحكمة التي ذكرها وهي موجودة سواء كن مع رجل او منفردات والله اعلم الثلاثون ان شهادة العبد البالغ مقبولة كالشهادة الحر. لعموم قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم. والعبد البالغ من رجالنا الحادي والثلاثون ان شهادة الكفار ذكورا كانوا او نساء غير مقبولة لانهم ليسوا منا ولان مبنى الشهادة على وهو غير عدل. الثاني والثلاثون فيه فضيلة الرجل على المرأة. وان الواحد في مقابلة المرأتين بقوة حفظه ونقص حفظها الثالث والثلاثون ان من نسي شهادته ثم ذكرها فذكر. فشهادته مقبولة. لقوله فتذكر احداهما الاخرى. الرابع والثلاثون يؤخذ من المعنى ان شاهد اذا خاف شهادته في الحقوق الواجبة وجب عليه كتابتها لان ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب. الخامس ثلاثون انه يجب على الشاهد اذا دعي للشهادة وهو غير معذور. لا يجوز له ان يأبى لقوله. ولا يأبى الشهداء اذا ما دعوا. السادس هو ان من لم يتصف بصفة الشهداء المقبولة شهادتهم. لم يجب عليه الاجابة لعدم الفائدة بها. ولانه ليس من الشهداء. السابع والثلاثون النهي عن السآمة والضجر من كتابة الديون كلها من صغير وكبير. وصفة الاجل وجميع ما احتوى عليه العقد من الشروط والقيود. الثامن والثلاثون بيان الحكمة في مشروعية الكتابة والاشهاد في العقود. وانه اقسط عند الله واقوم للشهادة وادنى الا ترتابوا فانها متضمنة للعدل الذي به قوام العباد والبلاد. والشهادة المقترنة بالكتابة تكون اقوم واكمل. وابعد من الشك والريب والتنازع والتشاجر التاسع والثلاثون يؤخذ من ذلك ان من اشتبه وشك في شهادته لم يجز له الاقدام عليها بل لابد من اليقين. الاربعون قوله الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم. فليس عليكم جناح الا تكتبوها. فيه الرخصة في ترك الكتابة اذا كانت الزيارة حاضرا بحاضر لعدم شدة الحاجة الى الكتابة الحادي والاربعون انه ان رخص في ترك الكتابات في التجارة الحاضرة فانه يشرع الاشهاد لقوله واشهدوا اذا تبايعتم. الثاني والاربعون النهي عن مضارة الكاتب بان يدعى وقت اشتغال وحصول مشقة عليه. الثالث والاخر اربعون النهي عن مباراة الشهيد ايضا بان يدعى الى تحمل الشهادة او ادائها في مرض او شغل يشق عليه. او غير ذلك هذا على جعل قوله ولا يضار كاتب ولا شهيد. مبنيا للمجهول. واما على جعلها مبنيا للفاعل. ففيه نهي الشاهد والكاتب ان يضارا صاحب الحق بالامتناع او طلب اجرة شاقة ونحو ذلك. وهذان هما الرابع والاربعون والخامس والاربعون. السادس والاربعون ان ارتكاب هذه المحرمات من خصلة الفسق بقوله وان تفعلوا فانه فسوق بكم. السابع والاربعون ان الاوصاف كالفسق والايمان والنفاق والعداوة والولاية. ونحو لذلك تتجزأ في الانسان فتكون فيه مادة فسق وغيرها. وكذلك مادة ايمان وكفر. لقوله فانه فسوق بكم. ولم يقل انتم فاسقون او فساق. الثامن والاربعون وحقه ان يتقدم على ما هنا. يتقدم بموضعه. اشتراط العدالة في الشاهد لقوله ممن ترضون من الشهداء. التاسع والاربعون ان العدالة يشترط فيها العرف في كل مكان وزمان. فكل من كان مرضيا معتبرا عند الناس قبلت شهادته الخمسون يؤخذ منها عدم قبول شهادة المجهول. حتى يزكى. فهذه الاحكام مما يستنبط من هذه الاية الكريمة على حسب الحال الحاضرة والفهم القاصر ولله في كلامه حكم واسرار. يخص بها من يشاء من عباده. وقوله تعالى وان ان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضا. فان امن بعضكم بعضا فليؤذن الذي اؤتمن امانته وليتق الله ربه ولا تكتم الشهادة. ومن يكتمها فانه واثم قلبه والله بما تعملون عليم. اي ان كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب بينكم ويحصل به التوثق فرهان مقبوضة اي يقبضها صاحب الحق. وتكون وثيقة عنده حتى يأتيه حقه. ودل هذا على ان الرهن غير المقبول لا يحصل منها التوثق ودل ايضا على ان الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رهنت به كان القول قول المرتهن. ووجه ذلك ان الله جعل كرهنا عوضا عن الكتابة في توثق صاحب الحق. فلولا ان قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به لم يحصل المعنى المقصود. ولما كان المقصود اهل التوثق جاز حضرا وسفرا. وانما نص الله على السفر. لانه في مظنة الحاجة اليه لعدم الكاتب فيه. هذا كله اذا كان صاحب الحق يحب ان يتوثق لحقه. فما كان صاحب الحق امنا من غريمه. واحب ان يعامله من دون رهن. فعلى من عليه الحق ان يؤدي اليه كاملا غير ظالم مسلم له ولا باخس حقه. وليتق الله ربه في اداء الحق. ويجازي من احسن به الظن بالاحسان. ولا تكتموا الشهادة. لان الحق مبني عليها لا يثبت بدونها فكتمها من اعظم الذنوب. لانه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق. ويخبر بضده وهو الكذب. ويترتب على ذلك فوات له الحق ولهذا قال تعالى ومن يكتمها فانه اثم قلبه. والله بما تعملون عليم. وقد اشتملت هذه الاحكام الحسنة التي الله عباده اليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة. دلت على ان الخلق لو اهتدوا بارشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم. لاشتمال العدل والمصلحة وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات وانتظام امر المعاش. فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناء عليه يحاسبكم والله على كل شيء قدير. هذا اخبار من الله ان له ما في السماء وما في الارض. الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية. فكانوا ملكا له وعبيدا. لا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وهو ربهم ومالكهم والذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله واحسانه. وقد امرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما سره واعلنوه فيغفر لمن يشاء وهو لمن اتى باسباب المغفرة ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره. والله على كل شيء قدير قدير لا يعجزه شيء بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير يخبر تعالى عن ايمان الرسول والمؤمنين معه. وانقيادهم وطاعتهم وسؤالهم مع ذلك المغفرة. فاخبر انهم امنوا بالله وملائكته ملائكته وكتبه ورسله. وهذا يتضمن الايمان بجميع ما اخبر الله به عن نفسه. واخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله. على وجه الاجمال والتفصيل وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص. ويتضمن الايمان بالملائكة الذين نصت عليهم الشرائع جملة وتفصيلا. وعلى الايمان لجميع الرسل والكتب اي بكل ما اخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الاخبار والاوامر والنواهي. وانهم لا يفرقون بين احد من رسله. بل يؤمنون بجميعهم لانهم وسائط بين الله وبين عباده. فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم بل كفر بالله. وقالوا سمعنا ما امرتنا به ليتنا واطعنا لك في ذلك ولم يكونوا ممن قالوا سمعنا وعصينا. ولما كان العبد لابد ان يحصل منه تقصير في حقوق الله تعالى وهو الى مغفرته على الدوام. قالوا غفرانك اي نسألك مغفرة لما صدر منا من التقصير والذنوب. ومحو ما اتصفنا به من العيوب واليك المصير اي المرجع لجميع الخلائق فتجزيهم بما عملوا من خير وشر. لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسب وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. واعف عنا واغفر لنا وارحمنا واعف عنا واغفر لنا وارحمنا. انت مولانا فوز لما نزل قوله تعالى وان تبدوا ما في انفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله. شق ذلك على المسلمين لما توهموا ان ما يقع في القلب من الامور اللازمة والعارضة. المستقرة وغيرها مؤاخذون فاخبرهم بهذه الاية انه لا يكلف نفسا الا وسعها. اي امرا تسعه طاقتها. ولا يكلفها ويشق عليها. كما قال تعالى جعل عليكم في الدين من حرج. فاصل الاوامر والنواهي ليست من الامور التي تشق على النفوس. بل هي غذاء للارواح ودواء للابدان. وحمية عن فالله تعالى امر العباد بما امرهم به رحمة واحسانا. ومع هذا اذا حصل بعض الاعذار التي هي مظنة المشقة. حصل التخفيف والتسهيل اما باسقاطه عن المكلف او اسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم. ثم اخبر تعالى ان لكل نفس ما كسبت من الخير وعليها ما اكتسبت من الشر فلا تزر وازرة وزر اخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره. وفي الاتيان بكسب في الخير الدال على ان عمل الخير يحصل للانسان في ادنى سعي منه بل بمجرد نية القلب. واتى باكتسب في عمل الشر. بالدلالة على ان عمل الشر لا يكتب على الانسان حتى يعمله. ويحصل ولما اخبر تعالى عن ايمان الرسول والمؤمنين معه. وان كل عامل سيجازى بعمله وكان الانسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان. واخبر ان انه لا يكلفنا الا ما نطيق. وتسعه قوتنا. اخبر عن دعاء المؤمنين بذلك. وقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم ان الله قال قد فعلت اجابة لهذا الدعاء. فقال ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا. والفرق بينهما ان نسيان ذهول القلب عما امر به. فيترك نسيانا. والخطأ ان يقصد شيئا يجوز له قصده. ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله. فهذان قد عفا الله عن هذه الامة ما يقع بهم رحمة بهم واحسانا. فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب او نجس. او قد نسي نجاسة على بدنه او تكلم في الصلاة ناسيا. او فعل مفطرا ناسي او فعل محظورا من محظورات الاحرام التي ليس فيها اتلاف الناس فانه معفو عنه. وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا. وكذلك لذلك لو اخطأ فاتلف نفسا او مالا فليس عليه اثم. وانما الضمان مترتب على مجرد الاتلاف. وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية. اذا تركها الانسان ناسيا لم يضر. ربنا ولا تحمل علينا اصرا اي تكاليف مشقة كما حملته على الذين من قبلنا. وقد فعل تعالى فان الله فخفف عن هذه الامة في الاوامر من الطهارات واحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وقد فعل وله والحمد واعف عنا واغفر لنا وارحمنا. فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور. والرحمة يحصل بها صلاح الامور. انت مولانا اي ومليكنا والى هنا الذي لم تزل ولايتك ايانا منذ اوجدتنا وانشأتنا. فنعمك دابة علينا متصلة عدد الاوقات. ثم انعمت علينا نعمة العظيمة والمنحة الجسيمة. وهي نعمة الاسلام التي جميع النعم تبع لها. فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بان تنصرنا على القوم الكافرين الذين كفروا بك وبرسلك وقاوموا اهل دينك ونبذوا امرك. فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان. بان تمكن لنا في الارض وتخذل اللهم ترزقنا الايمان والاعمال التي يحصل بها النصر. والحمد لله رب العالمين بسم الله الرحمن الرحيم. نزل صدرها الى بضع وثمانين اية في مخاصمة النصارى وابطال مذهبهم. ودعوتهم الى الدخول في الدين حق دين الاسلام كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود كما تقدم الله لا اله الا هو الحي القيوم. افتتحها تبارك وتعالى بالاخلاص بالوهيته وانه الاله الذي لا اله الا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد الا لوجهه. فكل معبود سواه فباطل الله هو الاله الحق المتصف بصفات الالوهية. التي مرجعها الى الحياة والقيومية. فالحي من له الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة جميع الصفات التي لا تتم ولا تكمن الحياة الا بها. كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء والدوام. والعز الذي لا يرام القيوم الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته وقام بغيره. فافتقرت اليه جميع مخلوقاته في الايجاد والاعداد والامداد فهو الذي قام بتدبير الخلائق وتصريفهم. تدبير للاجسام وللقلوب والارواح ان الذين كفروا بايات الله لهم عذاب شديد لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام ومن قيامه قال بعباده ورحمته بهم ان نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي هو اجل الكتب واعظمها المشتمل على الحق في باخباره واوامره ونواهيه. فما اخبر به صدق وما حكم به فهو العدل وانزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابة مصدقا لما بين يديه من الكتب السابقة. فهو المزكي لها فما شهد لها فهو المقبول. وما رده فهو المردود. وهو اطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون. وهي شاهدة له بالصدق فاهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم ان لم يؤمنوا به فان كفرهم به ينقض ايمانهم بكتبهم. ثم قال الله تعالى وانزل التوراة اي على موسى والانجيل على عيسى من قبل انزال القرآن هدى للناس. الظاهر ان هذا راجع لكل ما تقدم. اي انزل الله القرآن والتوراة والانجيل هدى للناس من الضلال فمن قبل هدى الله فهو المهتدي. ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله. وانزل الفرقان اي الحجج والبينات والبراهين القاطعات الدالة على جميع المقاصد والمطالب. وكذلك فصل وفسر ما يحتاج اليه الخلق حتى بقية الاحكام جلية ظاهرة. فلم يبق لاحد عذر ولا حجة من لم يؤمن به وبآياته فلهذا قال ان الذين كفروا بايات الله اي بعدما بينها ووضحها وازاح العلل لهم عذاب شديد لا يقدر قدره ولا يدرك وصفه. والله عزيز اي قوي لا يعجزه شيء ذو انتقام ممن عصاه وهذا فيه تقرير احاطة علمه بالمعلومات كلها جليها وخفيها. ظاهرها وباطنها. ومن جملة ذلك الاجنة في البطون التي لا يدركها بصر المخلوقين. ولا ينال علمهم وهو تعالى يدبرها تدبير ويقدرها بكل تقدير. فلهذا قال لا اله الا هو العزيز هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء. من كامل الخلق وناقصه وحسن وقبيح وذكر وانثى لا اله الا هو العزيز الحكيم. تضمنت هذه الايات تقرير الهية الله وتعينها وابطال الهية ما سواه. وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون الهية عيسى ابن مريم عليه السلام. وتضمنت اثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما تقدم واثبات الشرائع الكبار وانها رحمة وهداية للناس وتقسيم الناس الى مهتد وغيره وعقوبة من لم يهتدي بها وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته محكمة هن ام الكتاب واخر متشابهات. فاما الذين في قلوبهم زي اتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وما يعلم والراسخون في العلم يقولون امنا به كل القرآن العظيم كله محكم كما قال قال الله تعالى كتاب احكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. فهو مشتمل على غاية الاتقان والاحكام والعدل والاحسان من احسن من الله حكما لقوم يوقنون. وكله متشابه في الحسن والبلاغة والتصديق بعضه لبعض. ومطابقته لفظا ومعنى. واما الاحكام تشابه المذكور في هذه الاية. فان القرآن كما ذكره الله منه ايات محكمات. اي واضحات الدلالة ليس فيها شبهة ولا اشكال هن ام الكتاب اي اصله الذي يرجع اليه كل متشابه. وهي معظمه واكثره. ومنه ايات اخر متشابهات. اي يلتبس معناها على كثير من الاذهان لكون دلالتها مجملة او يتبادر الى بعض الافهام غير المراد منها. فالحاصل ان منها ايات بينة واضحة لكل احد وهي الاكثر التي يرجع اليها ومنه ايات تشكل على بعض الناس. فالواجب في هذا ان يرد المتشابه الى المحكم. والخفي الى الجلي فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا. ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة. ولكن الناس انقسموا الى فرقتين. فاما الذين في قلوبهم اي ميل عن الاستقامة بان فسدت مقاصدهم. وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد. فيتبعون ما تشاء ان يتركون المحكم الواضح ويذهبون الى المتشابه ويعكسون الامر فيحملون المحكم على المتشابه ابتغاء الفتنة لمن يدعونهم قولهم فان المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه. والا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة لوضوح الحق فيه لما قصده اتباعه وقوله وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله. للمفسرين في الوقوف على الله من قوله وما تأويله الا الله قولان جمهورهم يقفون عندها وبعضهم يعطف عليها والراسخون في العلم. وذلك كله محتمل. فان ان التأويل ان اريد به علم حقيقة الشيء وكنه كان الصواب الوقوف على الا الله. لان المتشابه الذي استأثر الله بعلم كونه وحقيقته نحو حقائق صفات الله وكيفيتها وحقائق اوصاف ما يكون في اليوم الاخر ونحو ذلك. فهذا لا يعلمها الا الله. ولا يجوز التعرض للوقوف عليها لانه تعرض لما لا يمكن معرفته. كما سئل الامام مالك رحمه الله عن قوله الرحمن على العرش استوى. فقال السائل كيف استوى؟ فقال ما لك الاستواء معلوم. والكيف مجهول. والايمان به واجب. والسؤال عنه بدعة. فهكذا يقال في سائر الصفات سأل عن كيفيتها ان يقال كما قال الامام مالك تلك الصفة معلومة وكيفيتها مجهولة والايمان بها واجب والسؤال عنها بدعة وقد اخبرنا الله بهذا ولم يخبرنا بكيفيتها. فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا. فاهل زيغ يتبعون هذه الامور المشتبهات لما لا يعني وتكلفا لما لا سبيل لهم الى علمه. لانه لا يعلمها الا الله. واما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكيلون المعنى الى الله فيسلمون ويسلمون. وان اريد بالتأويل التفسير والكشف والايضاح. كان الصواب عطف الراسخون على الله فيكون الله قد اخبر ان تفسير المتشابه ورده الى المحكم وازالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها الا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون ايضا فيؤمنون بها ويردونها للمحكم. ويقولون كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا. وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا. ويشهد بعضه لبعض. وفيه تنبيه على الاصل الكبير. وهو انهم اذا علموا ان جميعه من عند الله واشكل عليه مجمل متشابه. علموا يقينا انه مردود الى المحكم. وان لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والايمان باحكامه عن اتباع المتشابه قال وما يذكر اي يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه الا اولوا الالباب اي اهل العقول اولي الرزينة لب العالم وخلاصة بني ادم. يصل التذكير الى عقولهم. فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه. وما يضرهم فيتركونه واما من عاداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته. لا ينفعهم الزجر والتذكير بخلوهم من العقول النافعة. ثم اخبر تعالى عن الراسخين في العلم انهم يدعون ويقولون ربنا لا تزغ قلوبنا بعد هديتنا ليلة منها عن الحق جهلا وعنادا منا. بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين. فثبتنا على هدايتك وعافنا مما ابتليت به الزائغين وهب لنا من لدنك رحمة. اي عظيمة توفقنا بها للخيرات. وتعصمنا بها من المنكرات. انك انت الوهاب. اي واسع عطايا والهبات كثير الاحسان الذي عم جودك جميع البريات ان الله لا يخلف الميعاد ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه. انك لا تخلف الميعاد. فمجازيهم باعمالهم حسنها وسيئها. وقد اثنى الله تعالى على في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد. احداها العلم الذي هو الطريق الموصل الى الله. المبين لاحكامه وشرائعه الثانية الرسوخ في العلم. وهذا قدر زائد على مجرد العلم. فان الراسخ في العلم يقتضي ان يكون عالما محققا. وعارفا مدققا قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه. فرسخ قدمه في اسرار الشريعة علما وحالا وعملا. الثالثة انه وصفهم بالايمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه الى محكمه بقوله يقولون امنا به كل من عند ربنا. الرابعة انهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون. الخامسة اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية. وذلك قوله ربنا لا تزغ قلوبنا بنا بعد اذ هديتنا. السادسة انه مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر. وتوسلوا اليه الوهاب السابعة انه اخبر عن ايمانهم وايقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه. وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل ثم قال تعالى آآ واولئك هم وقود النار. يخبر الا ان الكفار به وبرسله الجاحدين بدينه وكتابه قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وانه لا يغني عنهم ما لهم ولا اولادهم شيئا. وان كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد عليهم. ويقولون نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين. فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. وبدا لهم سيئات ما كسبوا. وحاق بهم ما كانوا به تستهزئون وليس للاولاد والاموال قدر عند الله. انما ينفع العبد ايمانه بالله واعماله الصالحة. كما قال الله تعالى وما اموالكم ولا اولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى. الا من امن وعمل صالحا. فاولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا. وهم في وفاة امنون واخبر هنا ان الكفار هم وقود النار اي حطبها الملازمون لها دائما ابدا. وهذه الحال التي ذكر الله تعالى انها لا تغني الاموال والاولاد عن الكفار شيئا. سنته الجارية في الامم السابقة. كدأب ال فرعون والذين من قبلي ان كذبوا باياتنا فاخذهم الله بذنوبهم فاخذهم الله بذنوبهم ما الله شديد كما جرى لفرعون ومن قبله ومن بعدهم من الفراعنة العتات الطغاة ارباب الاموال والجنود ما كذبوا بايات الله وجحدوا ما جاءت به الرسل وعاندوا. اخذهم الله بذنوبهم عدلا منه لا ظلما. والله شديد العقاب على من اتى باسباب في العقاب وهو الكفر والذنوب على اختلاف انواعها وتعدد مراتبها. ثم قال تعالى قل يا محمد للذين كفروا تغلبون وتحشرون الى جهنم وبئس المهاد. وفي هذا اشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة. وتحذير للكفار. وقد وقع كما اخبر تعالى فنصر الله المؤمنين على اعدائهم من كفار المشركين واليهود والنصارى. وسيفعل هذا تعالى بعباده وجنده المؤمنين الى يوم القيامة. ففي هذا عبرة واية من ايات القرآن المشاهدة بالحس والعيان. واخبر تعالى ان الكفار مع انهم مغلوبون في الدار. انهم محشورون يوم القيامة لدار البوار. وهذا هو الذي مهدوه لانفسهم. فبئس المهاد مهادهم. وبئس الجزاء جزاؤهم هم اية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله واخرى كافرة يرونهم واخرى وكافرة يرونهم مثليهم رأي العين. والله يؤيد بنصره من يشاء ان في ذلك لعبرة لاولي الابصار. قد كان لكم اية اي عبرة عظيمة في فئة التقتا وهذا يوم بدر فئة تقاتل في سبيل الله وهم الرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه واخرى كافرة اي كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس. ويصدون عن سبيل الله. فجمع الله بين الطائفتين في بدر. وكان المشركون ما اضعاف المؤمنين. فلهذا قال يرونهم مثليهم رأي العين. ان يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة. تبلغ المضاعفات وتزيد عليها واكد هذا بقوله رأي العين فنصر الله المؤمنين وايدهم بنصره فهزموهم وقتلوا صناديدهم اسروا كثيرا منهم وما ذاك الا لان الله ناصر من نصره. وخاذل من كفر به. ففي هذا عبرة لاولي الابصار. اي اصحاب البصائر النافعة والعقول الكاملة على ان الطائفة المنصورة معها الحق والاخرى مبطلة. والا فلو نظر الناظر الى مجرد الاسباب الظاهرة والعدد والعدد لا تزال بان غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة من انواع المحالات. ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالابصار سبب اعظم لا يدركه الا اهل البصائر والايمان بالله والتوكل على الله والثقة بكفايته وهو نصره واعزازه لعباده المؤمنين على اعداء الكافرين زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين من النساء والبنين القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرص يخبر تعالى انه وزين للناس حب الشهوات الدنيوية وخص هذه الامور المذكورة لانها اعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها. قال الله تعالى انا جعلنا ما على الارض زينة لها. فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات. تعلقت بها نفوسهم ومالت اليها قلوبهم وانقسموا بحسب الواقع الى قسمين. قسم جعلوها هي المقصود. فصارت افكارهم وخواطرهم واعمالهم الظاهرة والباطنة لها. فشغلت عما خلقوا لاجله وصحبوها صحبة البهائم السائمة. يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها. ولا يبالون على اي وجه حصلوها ولا فيما انفقوها وصرفوها. فهؤلاء كانت زادا لهم الى دار الشقاء والعناء والعذاب. والقسم الثاني عرفوا المقصود منها الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده. ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته. فجعلوها وسيلة لهما طريقا يتزودون منها لاخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته. قد صحبوها بابدانهم وفارقوها بقلوبهم. وعلموا ان كما قال الله تعالى ذلك متاع الحياة الدنيا فجعلوها معبرا الى الدار الاخرة. ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة. فهؤلاء صارت لهم زادا الى ربهم. وفي هذه الاية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الاغنياء. وتحذير مغترين بها وتزهيد لاهل العقول النيرة بها. وتمام ذلك ان الله تعالى اخبر بعدها عن دار القرار. ومصير المتقين الابرار اخبر انها خير من ذلكم المذكور للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها آآ وازواج مطهرة ورضوان من الله رضوان من الله والله بصير بالعباد. الا وهي الجنات العاليات ذات المنازل للانيقة والغرف العالية والاشجار المتنوعة المثمرة بانواع الثمار. والانهار الجارية على حسب مرادهم. والازواج المطهرة من كل قلب ودنس وعيب ظاهر وباطن. مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم. مع الرضوان من الله الذي هو اكبر نعيم. فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة. ثم اختر لنفسك احسنهما. واعرض على قلبك المفاضلة بينهما. والله بصير بالعباد. اي عالم بما فيه من الاوصاف الحسنة والاوصاف القبيحة. وما هو اللائق باحوالهم يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء. فالجنة التي ذكر الله وصفها ونعتها وصف ايضا المستحقين لها وهم الذين اتقوه بفعل ما امر به وترك ما نهى عنه. وكان من دعائهم ان قالوا اين يقولون ربنا اننا امنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار توسلوا بمنة الله عليهم بتوفيقهم للايمان ان يغفر لهم ذنوبهم. ويقيهم شر اثارها وهو عذاب النار. ثم فصل اوصاف التقوى فقال الصابرين والصادقين والقانتين منفقين والمستغفرين بالاسحار الصابرين انفسهم على ما يحبه الله من طاعته وعن معصيته وعلى اقداره المؤلمة. والصادقين في ايمانهم واقوالهم واحوالهم. والمنفقين مما رزقهم الله بانواع النفقات على المحاويج من الاقارب وغيرهم. والمستغفرين بالاسحار. لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم لانفسهم. وانهم لا يرون لانفسهم حالا ولا مقاما. بل يرون انفسهم مذنبين مقصرين. فيستغفرون ربهم ويتوقعون اوقات الاجابة وهي السحر. قال مدوا الصلاة الى السحر ثم جلسوا يستغفرون ربهم فتضمنت هذه الايات حالة الناس في الدنيا وانها متاع ينقضي ثم وصفت الجنة وما فيها من النعيم. وفاضل بينهما وفضل الاخرة على الدنيا تنبيها على انه يجب ايثارها والعمل لها. ووصف اهل الجنة وهم المتقون ثم فصل خصال التقوى فبهذه الخصال يزن العبد نفسه هل هو من اهل الجنة ام لا اله الا هو والملائكة واولو العلم اله الا هو العزيز الحكيم. هذا تقرير من الله تعالى التوحيد باعظم الطرق الموجبة له. وهي شهادته تعالى. وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة واهل العلم. اما شهادته تعالى فيما اقامه من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده. وانه لا اله الا هو. فنوع الادلة في الافاق والانفس على هذا الاصل العظيم. ولو لم في ذلك الا انه ما قام احد بتوحيده الا ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد. وكذلك انعامه العظيم الذي ما بالعباد من نعمة الا منه ولا يدفع النقم الا هو. والخلق كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لانفسهم ولغيرهم. ففي هذا برهان قاطع على وجوبه التوحيد وبطلان الشرك. واما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها باخبار الله لنا بذلك واخبار رسله. واما شهادة اهل العلم انهم هم المرجع في جميع الامور الدينية. خصوصا في اعظم الامور واجلها واشرفها. وهو التوحيد. فكلهم من اولهم الى اخرهم قد اتفقوا على ذلك ذلك ودعوا اليه وبينوا للناس الطرق الموصلة اليه. فوجب على الخلق التزام هذا الامر المشهود عليه والعمل به. وفي هذا دليل على ان اشرف امور علم التوحيد لان الله شهد به بنفسه واشهد عليه خاص خلقه. والشهادة لا تكون الا عن علم ويقين. بمنزلة المشاهدة ففيه دليل على ان من لم يصل في علم التوحيد الى هذه الحالة فليس من اولي العلم. وفي هذه الاية دليل على شرف العلم من وجوه كثيرة منها ان الله خصهم بالشهادة على اعظم مشهود عليه دون الناس. ومنها ان الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته وكفى بذلك فضلا. ومنها انه جعلهم اولي العلم فاضافهم الى العلم اذ هم القائمون به المتصفون بصفته. ومنها انه تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس. والزم الناس العمل بالامر المشهود به. فيكونون هم السبب في ذلك. فيكون كل من عمل بذلك لهم من اجره وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ومنها ان اشهاده تعالى اهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم. وانهم امناء وعلى ما استرعاهم عليه. ولما قرر توحيده قرر عدله فقال قائما بالقسط. اي لم يزل متصفا بالقسط في افعاله وتدبيره بين عبادة فهو على صراط مستقيم فيما امر به ونهى عنه. وفيما خلقه وقدره ثم اعاد تقرير توحيده فقال لا اله الا الله هو العزيز الحكيم. واعلم ان هذا الاصل الذي هو توحيد الله وافراده بالعبودية قد دلت عليه الادلة النقلية والادلة العقلية. حتى صار لذوي المصائب اجلى من الشمس. فاما الادلة النقلية فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله. من الامر به وتقريره ومحبة اهله وبغض من لم به وعقوباتهم وذم الشرك واهله فهو من الادلة النقلية على ذلك. حتى كاد القرآن ان يكون كله ادلة عليه. واما الادلة التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره للامور. فقد ارشد القرآن اليها ونبه على كثير منها. فمن اعظمها الاعتراف بربوبيته فان من عرف انه هو الخالق الرازق المدبر لجميع الامور. انتج له ذلك انه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة الا له. ولما كان هذا من اوضح الاشياء واعظمها. اكثر الله تعالى من الاستدلال به في كتابه. ومن الادلة العقلية على ان الله هو الذي يؤله دون غيره انفراده النعم ودفع النقم فان من عرف ان النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله وانه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة الا وهو الذي ينفرد بدفعها. وان احدا من الخلق لا يملك لنفسه فضلا عن غيره جلب نعمة ولا دفع نقمة. تيقن ان عبودية ما سوى الله من عن الباطل وان العبودية لا تنبغي الا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار. فلهذا اكثر الله في كتابه من التنبيه على هذا الدليل جدا ومن الادلة العقلية ايضا على ذلك ما اخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه بانها لا تملك نفعا ولا ضرا ولا تنصر غيرها ولا نفسها وسلبها الاسماع والابصار. وانها على فرض سماعها لتغني شيئا. وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص. وما وبه عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والافعال الجميلة. والقدرة والقهر وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالادلة السمعية والعقلية من عرف ذلك حق المعرفة عرف ان العبادة لا تليق ولا تحسن الا بالرب العظيم. الذي له الكمال كله والمجد كله والحمد كله القدرة كلها والكبرياء كلها لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون. ومن الادلة العقلية على ذلك كما شاهده العباد بابصارهم من قديم الزمان وحديثه. من الاكرام لاهل التوحيد والاهانة والعقوبة لاهل الشرك. وما ذاك الا لان التوحيد جعل سأله الله موصلا الى كل خير دافع لكل شر ديني ودنيوي. وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية. ولهذا اذا ذكر تعالى قصص الرسل مع امم المطيعين والعاصين. واخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم. قال عقب كل قصة ان في ذلك لا اية اين عبرة يعتبر بها المعتبرون فيعلمون ان توحيده هو الموجب للنجاة وتركه هو الموجب للهلاك فهذه من الادلة كبار العقلية النقلية الدالة على هذا الاصل العظيم. وقد اكثر الله منها في كتابه وصرفها ونوعها. ليحيى من حي عن بينة. ويهلك من هلك عن بينة فله الحمد والشكر والثناء. ولما قرر انه الاله الحق المعبود. بين العبادة والدين الذي يتعين ان يعبد به ويدان ان الدين عند الله الاسلام. وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد اجابهم العلم بغيا بينهم. ومن يكفر بايات الله فان الله ستر سريع الحساب. وهو الاسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته. التي دعت اليها رسله. وحثت عليها كتبه وهو الذي لا يقبل من احد دين سواه. وهو متضمن للاخلاص له في الحب والخوف والرجاء والانابة والدعاء. ومتابعة رسوله في ذلك هذا هو دين الرسل كلهم. وكل من تبعهم فهو على طريقهم. وانما اختلف اهل الكتاب بعدما جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله بغيا بينهم وظلما وعدوانا من انفسهم. والا فقد جاءهم السبب الاكبر الموجب ان يتبعوا الحق ويتركوا الاختلاف. وهذا من كفرهم لهذا قال وما اختلف اهل الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم. ومن يكفر بايات الله فان الله سريع الحساب. فيجاز لكل عامل بعمله وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الاليم. ثم امر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عند محاجة النصارى وغيرهم. ممن يفضل غير دين الاسلام. عليه ان يقول لهم وقل للذين اوتوا الكتاب فان اسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فانما عليك البلاغ. والله بصير قد اسلمت وجهي لله ومن اتبعني. اي انا ومن اتبعني قد اقررنا وشهدنا واسلمنا وجوهنا لربنا وتركنا ما سوى دين الاسلام وجزمنا ببطلانه. ففي هذا تأييس لمن طمع فيكم وتجديد لدينكم عند ورود الشبهات. وحجة على من اشتبه اعليه الامر لانه قد تقدم ان الله استشهد على توحيده باهل العلم من عباده ليكونوا حجة على غيرهم وسيد اهل العلم وافضلهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ثم من بعده اتباعه على اختلاف مراتبهم وتفاوت درجاتهم. فلهم من العلم الصحيح والعقل الرجيح ما ليس لاحد من الخلق ما يساويهم او يقاربهم. فاذا ثبت وتقرر توحيد الله ودينه بادلته الظاهرة. وقام به اكمل الخلق واعلمهم حصل بذلك اليقين وانتفى كل شك وريب وقادح. وعرف ان ما سواه من الاديان باطلة. فلهذا قال وقل للذين اوتوا الكتاب من النصارى واليهود والاميين مشركي العرب وغيرهم ااسلمتم فان اسلموا اي بمثل ما امنتم به فقد اهتدوا كما ابتديتم وصاروا اخوانكم لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وان تولوا عن الاسلام ورضوا بالاديان التي تخالفه. فانما عليك البلاغ فقد وجب اجرك على ربك وقامت عليهم الحجة ولم يبق بعد هذا الا مجازاتهم بالعقاب على جرمهم. فلهذا قال والله بصير بالعباد ان الذين يكفرون بايات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب اليم هؤلاء الذين اخبر الله عنهم في هذه الاية اشد الناس جرما واي جرم اعظم من الكفر بايات الله التي تدل دلالة قاطعة على الحق الذي من كفر بها فهو في غاية الكفر والعناد. ويقتلون انبياء الله الذين حقهم اوجبوا الحقوق على العباد بعد حق الله. الذين اوجب الله طاعتهم والايمان بهم وتعزيرهم وتوقيرهم ونصرهم. وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك. ويقتلون ايضا الذين يأمرون الناس بالقسط الذي هو العدل وهو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حقيقته احسان الى المأمور ونصح له. فقابلوهم شر مقابلة فاستحقوا بهذه الجنايات في المنكرات اشد العقوبات. وهو العذاب المؤلم البالغ في الشدة الى غاية ما يمكن وصفها. ولا يقدر قدرها المؤلم للابدان والقلوب والارواح اولئك الذين حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرة وبطلت اعمالهم بما كسبت ايديهم. وما لهم احد ينصرهم من عذاب الله ولا يدفع عنهم من نقمته مثقال ذرة من قد ايسوا من كل خير. وحصل لهم كل شر وضير. وهذه الحالة صفة اليهود ونحوهم. قبحهم الله ما اجرأهم على الله وعلى انبيائه وعباده الصالحين يخبر تعالى عن حال اهل الكتاب الذين انعم الله عليهم بكتابه. فكان يجب ان يكونوا اقوم الناس به واسرعه من قيادا لاحكامه. فاخبر الله عنهم انهم اذا دعوا الى حكم الكتاب تولوا لا فريق منهم وهم معرضون تولوا بابدانهم واعرضوا بقلوبهم وهذا غاية الذم. وفي ضمنها التحذير لنا ان نفعل كفعلهم فيصيبنا من الذم والعقاب ما اصابهم. بل الواجب على كل احد اذا دعي الى كتاب الله ان يسمع ويطيع وينقاد. كما قال تعالى انما ما كان قول المؤمنين اذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم ان يقولوا سمعنا واطعنا. والسبب الذي غر اهل الكتاب بتجرؤهم على الله وقولهم افتروا هذا القول فظنوه حقيقة فعملوا على ذلك من زجروا عن المحارم لان انفسهم منتهم وغرتهم ان مآلهم الى الجنة. وكذبوا في ذلك فان هذا مجرد كذب وافتراء. وانما مآلهم شر مآل وعاقبتهم عاقبة وخيمة. فلهذا قال تعالى ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. فكيف اذا جمعناهم ليوم لا ريب اي كيف يكون حالهم ووخيم ما يقدمون عليه حالة لا يمكن وصفها. ولا يتصور قبحها. لان ذلك اليوم يوم توفير في النفوس ما كسبت ومجازاتها بالعدل لا بالظلم. وقد علم ان ذلك على قدر الاعمال وقد تقدم من اعماله ما يبين انهم من اشد الناس عذابا وتعز من تشاء وتذل من بيدك الخير انك على كل شيء قدير يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل اللهم مالك الملك اي انت الملك المالك لجميع الممالك. فصفة الملك المطلق لك والمملك المملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك. ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها. فقال تؤتي ملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء. وفيه الاشارة الى ان الله تعالى سينزع الملك من الاكاسرة والقياسرة. ومن تبعهم ويؤتيه امة محمد وقد فعل ولله الحمد فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى. ولا ينافي ذلك ما اجرى الله به سنته من الاسباب الكونية النية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله. فانها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء. بل الاسباب وكلها تابعة للقضاء والقدر. ومن الاسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك والايمان والعمل الصالح. التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم واعدادهم الالات التي يقدرون عليها والصبر وعدم التنازع. قال الله تعالى وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخيفون كيف انهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم. فاخبر ان الايمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور. وقال تعالى هو الذي ايدك بنص وبالمؤمنين والف بين قلوبهم. وقال الله تعالى يا ايها الذين امنوا اذا لقيتم فئة فاثبتوا. واذكروا الله كثيرا لعلكم مفلحون واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا تذهب ريحكم. واصبروا ان الله مع الصابرين. فاخبر ان ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الاعداء. وانت اذا استقرأت دول الاسلامية وجدت السبب الاعظم في زوال ملكها. ترك كالدين والتفرق الذي اطمع فيهم الاعداء وجعل بأسهم بينهم. ثم قال تعالى وتعز من تشاء بطاعتك وتذل من تشاء بمعصيتك انك على كل شيء قدير. لا يمتنع عليك امر من الامور. بل الاشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك النهار وتولج النهار في الليل. وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء. بغير حساب. تولج الليل في النهار تولجوا النهار في الليل. اي تدخل هذا على هذا وهذا على هذا. فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون ما هو من اكبر الادلة على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته. وتخرج الحي من الميت كالفرخ من البيضة وكالشجر من النوى وكالزرع من بذره وكالمؤمن من الكافر وتخرج الميت من الحي كالبيضة من الطائر وكالنوى من الشجر وكالحب من الزرع كافر من المؤمن وهذا اعظم دليل على قدرة الله. وان جميع الاشياء مسخرة مدبرة لا تملك من التدبير شيئا. فخلقه تعالى الاضداد والضد من ضده بيان انها مقهورة. وترزق من تشاء بغير حساب. اي ترزق من تشاء رزقا واسعا من حيث لا يحتسب ولا يحتسب ثم قال تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين تفعل ذلك فليس من الله في شيء الا ان تتقوا منهم تقى ويحذركم الله وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على امر من امور المسلمين. وتوعد على ذلك. فقال ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء. اي فقد انقطع الله وليس له في دين الله نصيب. لان موالاة الكافرين لا تجتمع مع الايمان. لان الايمان يأمر بموالاة الله وموالاة اوليائه المؤمنين المتعاونين على اقامة دين الله وجهاد اعدائه. قال الله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض. فمن والى الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون ان يطفئوا نور الله ويفتنوا اولياءه. خرج من حزب المؤمنين وصار من حزب الكافرين. قال الله تعالى ومن يتولهم منكم فانه منهم. وفي هذه الاية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم. والميل والركون اليهم وانه لا يجوز ان يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين. ولا يستعان به على الامور التي هي مصالح لعموم المسلمين. قال الله تعالى الا ان تتقوا منهم تقى اي تخافوهم على انفسكم في حل لكم ان تفعلوا ما تعصمون به دمائكم من التقية باللسان واظهار ما تحصل التقية. ثم قال تعالى ويحذركم الله نفسه. اي فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه. فيعاقبكم على ذلك. والى اهل مصير اي مرجع العباد ليوم التناد. فيحصي اعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم. فاياكم ان تفعلوا من الاعمال القبيحة ما تستحقون به العقوبة واعملوا ما به يحصل الاجر والمثوبة. ثم اخبر عن سعة علمه لما في النفوس خصوصا. ولما في السماء والارض عموما. وعن كمال قدرته ويعلم ما في السماوات ما في الارض والله على كل شيء قدير. ففيه ارشاد الى تطهير القلوب واستحضار علم الله في كل وقت يستحي العبد من ربه ان يرى قلبه محلا لكل فكر رديء. بل يشغل افكاره فيما يقرب الى الله من تدبر اية من كتاب او سنة من احاديث رسول الله او تصور وبحث في علم ينفعه او تفكر في مخلوقات الله ونعمه او نصح لعباد الله وفي ضمن اخبار الله عن علمه وقدرته بما هو لازم ذلك من المجازات على الاعمال. ومحل ذلك يوم القيامة. فهو الذي توفى به النفوس باعمالها. فلهذا قال ثم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا. وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه امدا بعيدا. ويحذركم الله نفسه والله رؤوف يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا اي كاملا موفرا لم ينقص مثقال ذرة كما قال قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. والخير اسم جامع لكل ما يقرب الى الله من الاعمال الصالحة. صغيرها وكبيرها كما ان السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله من الاعمال السيئة صغيرها وكبيرها. وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه امدا بعيدا. اي مسافة بعيدة لعظم اسفها وشدة حزنها. فليحذر العبد من اعمال السوء التي لابد ان يحزن عليها اشد الحزن. وليترك وقت الامكان قبل ان يقول يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله. يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا. يا ويلتا ليتني لم اتخذ فلانا خليلا. حتى اذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين. فوالله لترك كل شهوة ولذة. وان عسر تركها على النفس في هذه الدار. ايسر ومن معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك الفضائح. ولكن العبد من ظلمه وجهله لا ينظر الا الامر الحاضر. فليس له عقل كامل يلحظ به عواقب الاخرى امور فيقدم على ما ينفعه عاجلا واجلا. ويحجم عما يضره عاجلا واجلا. ثم اعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة لئلا يطول علينا الامد فتقسو قلوبنا وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح. والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب قال ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد. فنسأله ان يمن علينا بالحذر منه على الدوام. حتى لا نفعل ما يسخطه قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وهذه الاية فيها وجوب محبة الله وعلاماتها ونتيجتها وثمراتها فقال قل ان كنتم تحبون الله اي ادعيتم هذه المرتبة العالية والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوة بل لا بد من الصدق فيها. وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع احواله. في اقواله وافعاله في قل الدين وفروعه في الظاهر والباطن. فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى. واحبه الله وغفر له ذنبه. ورحمه حدده في جميع حركاته وسكناته. ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى. لان محبته لله توجب له اتباع رسوله. فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وانه كاذب ان ادعاها. مع انها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها. وبهذه الاية جميع الخلق فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون ايمانهم وحبهم لله. وما نقص من ذلك نقص. قل اطيعوا الله الكافرين وهذا امر من الله تعالى لعباده باعم الاوامر. وهو طاعته وطاعة رسوله التي يدخل بها الايمان والتوحيد. وما هو من فروع ذلك من الاعمال اي والاقوال الظاهرة والباطنة. بل يدخل في طاعته وطاعة رسوله. اجتناب ما نهى عنه. لان اجتنابه امتثالا لامر الله هو من طاعته. فمن اطاع الله ورسوله فاولئك هم المفلحون. فان تولوا اي اعرضوا عن طاعة الله ورسوله. فليس ثم امر يرجعون اليه الا الكفر كل شيطان مريد. كتب عليه انه من تولاه فانه يضله ويهديه الى عذاب السعير. فلهذا قال فان تولوا فان الله لا يحب الكافرين. بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم اشد العقوبة. وكان في هذه الاية الكريمة بيانا وتفسيرا لاتباع رسوله. وان ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله. هذا هو الاتباع الحقيقي. ثم قال تعالى ال ابراهيم وال عمران على العالمين. يخبر تعالى باختياره من اختاره من اوليائه واصفيائه واحبابه اخبر انه اصطفى ادم اي اختاره على سائر المخلوقات فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وامر الملائكة بالسجود له واسكنه متى واعطاه من العلم والحلم والفضل؟ ما فاق به سائر المخلوقات. ولهذا فضل بنيه فقال تعالى ولقد كرمنا بني ادم اتمناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا. واصطفى نوحا فجعله اول رسول الى اهل الارض الارض حين عبدت الاوثان ووفقه من الصبر والاحتمال والشكر والدعوة الى الله في جميع الاوقات. ما اوجب اصطفاءه واجتباءه واغرق الله اهل الارض بدعوته ونجاه ومن معه في الفلك المشحون. وجعل ذريته هم الباقين. وترك عليه ثناء يذكر في جميع الاحيان والازمان ابراهيم خليل الرحمن الذي اختصه الله بخلته وبذل نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ودعا الى ربه ليلا ونهارا وسرا وجهارا. وجعله الله اسوة يقتدي به من بعده. وجعل في ذريته النبوة والكتاب. ويدخل في ابراهيم جميع الانبياء الذين بعثوا من بعده لانهم من ذريته. وقد خصهم بانواع الفضائل ما كانوا به صفوة على العالمين. ومنهم سيدنا في ولد ادم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فان الله تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره. وفاق صلى الله عليه وسلم الاولين والاخرين. فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد ابراهيم. واصطفى الله ال عمران وهو والد مريم بنت عمران. او والد موسى بن عمران عليه السلام فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوته من العالمين. وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم. فلهذا قال تعالى ذرية بعضها من بعض اي حصل التناسب هو التشابه بينهم في الخلق والاخلاق الجميلة. كما قال تعالى لما ذكر جملة من الانبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار. ومن ابائهم اخوانهم وذرياتهم. واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم. والله سميع عليم. يعلم من يستحق الاصطفاء فيصطفيه لا يستحق ذلك فيخذله ويرضيه. ودل هذا على ان هؤلاء اختارهم لما علم من احوالهم الموجبة لذلك فضلا منه وكرما. ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا اخبار هؤلاء الاصفياء ان نحبهم ونقتدي بهم. ونسأل الله ان يوفقنا لما وفقهم. وان لا نزال نزري انفسنا تأخرنا عنهم وعدم اتصافنا باوصافهم ومزاياهم الجميلة. وهذا ايضا من لطفه بهم واظهاره الثناء عليهم في الاولين والاخرين والتنويه بشرفهم لو لم يكن لهم من الشرف الا ان اذكارهم مخلدة ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضلا. ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها فقال فتقبل مني انك انت السميع العليم اذ قالت امرأة عمران اي والدة مريم لما حملت ربي اني نذرت لك ما في بطني محررا اي جعلت ما في خالصا لوجهك محررا لخدمتك وخدمة بيتك. فتقبل مني هذا العمل المبارك. انك انت السميع العليم. تسمع دعائي وتعلم وقصدي هذا وهي في البطن قبل وضعها اه والله اعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى واني سميتها مريم اني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فلما وضعتها قالت ربياني وضعتها انثى كانها تشوقت ان يكون ذكرا ليكون اقدر على الخدمة. واعظم موقعا. ففي كلامها نوع عذر من ربها. فقال الله والله اعلم اعلموا بما وضعت اي لا يحتاج الى اعلامها بل علمه متعلق بها قبل ان تعلم امها ما هي. وليس الذكر كالانثى واني سميتها مريم فيه دلالة على تفضيل الذكر على الانثى. وعلى التسمية وقت الولادة. وعلى ان للام تسمية الولد اذا لم يكره الاب. واني اعيذ بك وذريتها من الشيطان الرجيم. دعت لها ولذريتها ان يعيذهم الله من الشيطان الرجيم. فتقبلها ربها بقبول وامتها نباتا حسنا وكفلها زكاة كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم الك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغيره فتقبلها ربها بقبول حسن. اي جعلها نذيرة مقبولة واجارها وذريتها من الشيطان. وانبت نباتا حسنا. اي نبتت نباتا حسنا في بدنها وخلقها واخلاقها. لان الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلام وكفلها اياه وهذا من رفقه بها ليربيها على اكمل الاحوال فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء وانقطعت لعبادة ربها ولزمت محراب اي مصلاها فكان كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا اي من غير كسب ولا تعب بل رزق ساقه الله واليها وكرامة اكرمها الله بها. فيقول لها زكريا انى لك هذا؟ قالت هو من عند الله فضلا واحسانا. ان الله ارزق من يشاء بغير حساب. اي من غير حسبان من العبد ولا كسب. قال الله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وفي هذه الاية دليل على اثبات كرامات الاولياء الخارقة للعادة. كما قد تواترت الاخبار بذلك خلافا لمن نفى ذلك. فلما رأى زكريا عليه السلام ما من الله به على مريم وما اكرمها به من رزقه الهنيء الذي اتاها بغير سعي منها ولا كسب. طمعت نفسه بالولد هذا قال تعالى هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك انك سميع الدعاء. اي دعا زكريا عليه السلام ربه ان يرزقه ذرية طيبة. اي طاهرة الاخلاق طيبة الاداب لتكمن النعمة الدينية والدنيوية بهم. فاستجاب له دعاءه الله يبشرك وبينما هو قائم في محرابه يتعبد لربه ويتضرع. نادته الملائكة ان الله يبشرك باحيى مصدقا بكلمة من الله اي بعيسى عليه السلام لانه كان بكلمة الله وسيدا ان يحصل له من الصفات الجميلة ما يكون به سيدا يرجع اليه في الامور وحصورا اي ممنوعا من اتيان النساء. فليس في قلبه لهن شهوة اشتغالا بخدمة ربه وطاعته. ونبيا من الصالحين اي بشارة اعظم من هذا الولد الذي حصلت البشارة بوجوده وبكمال صفاته وبكونه نبيا من الصالحين. فقال زكريا من شدة فرحه قال كذلك الله يفعل ما يشاء. ربي انا يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر. وكل واحد من الامرين مانع من وجود الولد فكيف وقد اجتمع فاخبره الله تعالى ان هذا خارق للعادة. فقال كذلك الله يفعل ما يشاء. فكما انه تعالى قدر وجود الاولاد بالاسباب التي منها التناسل. فاذا اراد ان يوجدهم من غير ما سبب فعل. لانه لا يستعصي عليه شيء. فقال زكريا عليه السلام استعجالا لهذا الامر وليحصل له كمال الطمأنينة ثلاثة ايام الا رمزا. واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار رب اجعل لي اية اي علامة على وجود الولد. قال ايتك الا تكلم الناس ثلاثة ايام الا رمزا ان ينحبس لسانك عن الكلام من غير افة ولا سوء فلا تقدر الا على الاشارة والرمز. وهذا اية عظيمة الا تقدر على الكلام. وفي بمناسبة عجيبة وهي انه كما يمنع نفوذ الاسباب مع وجودها فانه يوجدها بدون اسبابها. ليدل ذلك ان الاسباب كلها مندرجة في وقدره فامتنع من الكلام ثلاثة ايام. وامره الله ان يشكره ويكثر من ذكره بالعشي والابكار. حتى اذا خرج على قومه من المحراب فاوحى اليهم ان سبحوا بكرة وعشيا. اي اول النهار واخره واذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على يا نساء العالمين. ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها. وان الملائكة خاطبتها بذلك فقالت يا مريم ان الله اصطفاك اي اختارك وطهرك من الافات المنقصة واصطفاك على نساء العالمين. الاصطفاء الاول يرجع الى الصفات الحميدة والافعال السديدة. والاصطفاء الثاني يرجع الى تفضيلها على سائر نساء العالمين. اما على عالم زمانها او مطلقا وان شاركها افراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة لم ينافي الاصطفاء المذكور. فلما اخبرتها الملائكة باصطفاء الله اياها كان في هذا من نعمة العظيمة والمنحة الجسيمة. من يوجب لها القيام بشكرها. فلهذا قالت لها الملائكة لربك واسجدي واركعي مع الراكعين. يا مريم اقنتي لربك القنوت. دوام الطاعة في خضوع وخشوع واسجدي واركعي مع الراكعين. خص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله. ففعلت مريم ما امرت به شكرا لله الله تعالى وطاعة. ولما اخبر الله نبيه بما اخبر به عن مريم. وكيف تنقلت بها الاحوال التي قيدها الله لها؟ وكان هذا من الامور الغيبية التي تعلم الا بالوحي. قال مريم اختصمون. ذلك من انباء الغيب نوحيه اليك. وما كنت لديهم اي عندهم اذ يلقون اقلامهم. ايهم يكفل مريم لما ذهبت بها امها الى من لهم الامر على بيت المقدس. فتشاحوا وتخاصموا ايهم يكفل مريم. واقترعوا عليها بان القوا اقلامهم في النهر فايهم لم يجري قلمه مع الماء فله كفالتها. فوقع ذلك لزكريا نبيهم وافضلهم. فلما اخبرتهم يا محمد بهذه الاخبار التي لا علم لها لك ولا لقومك بها دل على انك صادق وانك رسول الله حقا. فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال اوامرك. كما قال تعالى ما كنت بجانب الغربي اذ قضينا الى موسى الامر اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة. بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين يخبر تعالى ان الملائكة بشرت مريم عليها السلام باعظم بشارة. وهو كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم. سمي كلمة الله لانه كان بالكلمة من الله. لان حالته خارجة عن الاسباب. وجعله الله من اياته وعجائب مخلوقاته. فارسل الله جبريل عليه السلام الى مريم فنفخ في جيب درعها فولجت فيها تلك النفخة الذكية من ذلك الملك الذكي. فانشأ الله منها تلك الروح الزكية كان روحانيا نشأ من مادة روحانية. فلهذا سمي روح الله وجيها في الدنيا والاخرة. اي له الوجاهة العظيمة في الدنيا. جعله الله اولي العزم من المرسلين اصحاب الشرائع الكبار والاتباع. ونشر الله له من الذكر ما ملأ ما بين المشرق والمغرب. وفي الاخرة وجيها عند الله يشفع اسوة اخوانه من النبيين والمرسلين. ويظهر فضله على اكثر العالمين. فلهذا كان من المقربين الى الله اقرب الخلق الى ربهم بل هو عليه السلام من سادات المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلو ومن ويكلم الناس في المهد وكهلا وهذا غير التكريم المعتاد. بل المراد يكلم الناس بما فيه صلاحهم وفلاحهم. وهو تكليم المرسلين. ففي هذا ارساله ودعوته الخلق الى ربه بهم وفي تكليمهم في المهد اية عظيمة من ايات الله ينتفع بها المؤمنون وتكون حجة على المعاندين انه رسول رب العالمين وانه عبد الله وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به. ومن الصالحين ان يمنوا عليه بالصلاح من من عليهم في جملتهم وفي هذا عدة بشارات لمريم. مع ما تضمن من التنويه بذكر المسيح عليه السلام قال كذلك الله يخلق ما يشاء آآ اذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون. قالت ربي انا يكون لي ولد ولم يمسسني بشر. والولد في العادة لا يكون الا من مس البشر. وهذا استغراب منها لا شك في قدرة الله تعالى. قال ذلك الله يخلق ما يشاء. اذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون. فاخبرها ان هذا امر خارق للعادة. خلقه من يقول لكل امر من اراد كن فيكون. فمن تيقن ذلك زال عنه الاستغراب والتعجب. ومن حكمة الباري تعالى انه تدرج باخبار العباد من الغريب الى ما هو اغرب منه فذكر وجود يحيى ابن زكريا بين ابوين احدهما كبير والاخر عاقر. ثم ذكر اغرب من ذلك واعجب وهو وجود عيسى عليه السلام من ام بلا اب ليدل عباده انه الفعال لما يريد. وانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ثم اخبر تعالى عن منتهية عظيمة على عبده ورسوله عيسى عليه السلام. فقال ويعلمه الكتاب. يحتمل ان يكون المراد جنس الكتاب. فيكون ذكر التوراة والانجيل تخصيصا لهما. لشرفهم وفضلهما واحتوائهما على الاحكام والشرائع التي يحكم بها انبياء بني اسرائيل. والتعليم لذلك يدخل فيه تعليم الفاظه ومعانيه يحتمل ان يكون المراد بقوله ويعلمه الكتاب اي الكتابة. لان الكتابة من اعظم نعم الله على عباده. ولهذا امتن تعالى على عباده تعليمهم بالقلم في اول سورة انزلها فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق. اقرأ وربك الاكرم. الذي علم بالقلم والمراد بالحكمة معرفة اسرار الشرع ووضع الاشياء مواضعها. فيكون ذلك امتنانا على عيسى عليه السلام بتعليمه الكتابة والعلم حكمة وهذا هو الكمال للانسان في نفسه. ثم ذكر له كمالا اخر وفضلا زائدا على ما اعطاه الله من الفضائل. فقال ورسولا الى بني اسرائيل. فارسله الله الى هذا الشعب الفاضل الذين هم افضل العالمين في زمانهم. يدعوهم الى الله اقام له من الايات ما دلهم على انه رسول الله حقا. ونبيه صدقا. ولهذا قال اني قد جئتكم باية من ربكم اني اخلق لكم من الطين طيرا. اي اصوره على شكل الطير. فانفخ فيه. فيكون طيرا باذن الله. اي طيرا له روح تطير باذن الله وابرئ الاكمة وهو الذي يولد اعمى والامرص باذن الله. واحيي الموتى باذن الله. وانبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ان في ذلك لاية لكم ان كنتم مؤمنين. واي اية اعظم من جعل الجماد حيوانا؟ وابراء ذوي العاهات التي لا قدرة الاطباء في معالجتها واحياء الموتى والاخبار بالامور الغيبية. فكل واحدة من هذه الامور اية عظيمة بمفردها فكيف بها اذا اجتمعت وصدق بعضها بعضها؟ فانها موجبة للايقان وداعية للايمان ومصدقا لما بين يدي من التوراة اي اتيت بجنس ما جاءت به التوراة وما جاء به موسى عليه السلام وعلامة الصادق ان يكون خبره من جنس خبر الصادقين. يخبر بالصدق ويأمر بالعدل من غير تخالف ولا تناقض بخلاف من ادعى دعوة كاذبة خصوصا اعظم الدعاوى وهي دعوى النبوة. فالكاذب فيها لابد ان يظهر لكل احد كذب صاحبها وتناقضه مخالفته لاخبار الصادقين. وموافقته لاخبار الكاذبين. وهذا موجب السنن الماضية والحكمة الالهية والرحمة الربانية بعباده اذ لا يشتبه الصادق بالكاذب في دعوى النبوة ابدا. بخلاف بعض الامور الجزئية. فانه قد يشتبه فيها الصادق بالكاذب. واما النبوة انه يترتب عليها هداية الخلق او ضلالهم وسعادتهم وشقاؤهم. ومعلوم ان الصادق فيها من اكمل الخلق. والكاذب فيها من اخس الخلق واكذبهم واظلمهم فحكمة الله ورحمته بعباده ان يكون بينهما من الفروق. ما يتبين لكل من له عقل. ثم اخبر عيسى عليه السلام ان شريعة الانجيل فيها سهولة ويسرة. فقال ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم. فدل ذلك على ان اكثر احكام التوراة لم ينسخها الانجيل. بل انا متمما لها ومقررا. وجئتكم باية من ربكم تدل على صدق ووجوب اتباعي. وهي ما تقدم من الايات. والمقصود من ذلك كله قوله فاتقوا الله بفعل ما امر به وترك ما نهى عنه. واطيعوني فان طاعة الرسول طاعة لله ان الله ربي وربكم فاعبدوه استدل بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل احد على توحيد الالهية الذي ينكره المشركون. فكما ان الله هو الذي خلقنا ورزقنا انعم علينا نعما ظاهرة وباطنة. فليكن هو معبودنا الذي نألهه بالحب والخوف والرجاء والدعاء. والاستعانة وجميع انواع العبادة. وفي في هذا رد على النصارى القائلين بان عيسى اله او ابن الله. وهذا اقراره عليه السلام بانه عبد مدبر مخلوق. كما قال اني عبد الله اتاني الكتاب وجعلني نبيا. وقال الله تعالى واذ قال الله يا عيسى ابن مريم اانت قلت للناس اتخذوني وامي اهيني من دون الله. قال سبحانك ما يكون لي ان اقول ما ليس لي بحق. ان كنت قلته فقد علمته الى قوله ما قلت لهم الا كما امرتني به ان اعبدوا الله ربي وربكم. وقوله هذا اي عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله صراط مستقيم موصل الى الله والى جنته. وما عدا ذلك فهي طرق موصلة الى الجحيم الحواريون نحن انصار الله امنا بالله امنا بالله واشهد بان انا مسلمون. فلما احس عيسى منهم الكفر اي رأى منهم عدم الانقياد له. وقالوا هذا سحر مبين. وهموا بقتله وسعوا في ذلك. قال من انصاري الى الله من يعاونني ويقوم معي بنصرة دين الله؟ قال الحواريون وهم الانصار نحن انصار الله اي انتدبوا معه وقاموا بذلك اكتبنا مع الشاهدين. وقالوا امنا بالله فاكتبنا مع الشاهدين. اي الشهادة النافعة وهي بتوحيد الله وتصديق رسوله مع القيام بذلك. فلما قاموا مع عيسى بنصر دين الله واقامة شرعه. امنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فاقتتلت الطائفتان فايد الله الذين امنوا بنصره على عدوهم فاصبحوا ظاهرين. فلهذا قال تعالى هنا ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين. ومكروا اي الكفار بارادة قتل نبي الله اطفاء نوره ومكر الله بهم جزاء لهم على مكرهم. والله خير الماكرين. رد الله كيدهم في نحورهم فانقلبوا خاسرين اذ قال الله يا عيسى اني متوفيك ورافعك الي ومطهرك من الذين كفروا انكم فيما كنتم فيه تختلفون. اذ قال الله يا عيسى اني متوفيك ورافعك الي. ومطهرك من حين كفروا فرفع الله عبده ورسوله عيسى اليه. والقي شبهه على غيره فاخذوا من القي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه. وباءوا بالاثم العظيم بنيتهم انه رسول الله قال الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. وفي هذه الاية دليل على علو الله تعالى او استوائه على عرشه حقيقة. كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والاحاديث النبوية. التي تلقاها اهل السنة بالقبول والايمان والتسليم وكان الله قويا عزيزا قاهرا. ومن عزته انه كف بني اسرائيل بعد عزمهم الجازم وعدم المانع لهم عن قتل عيسى عليه السلام. كما قال قال تعالى واذ كففت بني اسرائيل عنك اذ جئتهم بالبينات. فقال الذين كفروا منهم ان هذا الا سحر مبين. حكيم يضع الاشياء مواضعها وله اعظم حكمة في القاء الشبه على بني اسرائيل. فوقعوا في الشبه كما قال تعالى وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن. وما قتلوه يقينا. ثم قال تعالى وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة وتقدم ان الله ايد المؤمنين منهم على الكافرين. ثم ان النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلام لم يزالوا قاهرين لليهود لكون النصارى اقرب الى اتباع عيسى من اليهود حتى بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم. فكان المسلمون هم المتبعين لعيسى حقيقة. فايدهم الله ونصرهم على اليهود والنصارى وسائر الكفار. وانما يحصل في بعض الازمان ادانة الكفار من النصارى وغيرهم على المسلمين. حكمة من الله وعقوبة على تركهم لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم الي مرجعكم اي مصير الخلائق كلها فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون كل يدعي ان الحق معه وانه المصيب وغيره مخطئ. وهذا مجرد دعاوى تحتاج الى برهان. ثم اخبر عن حكمه بينهم بالقسط عدل فقال الاخرة فاما الذين كفروا اي بالله واياته ورسله فاعذبهم عذاب شديدا في الدنيا والاخرة. اما عذاب الدنيا فهو ما اصابهم الله به من القوارع والعقوبات مشاهدة. والقتل والذل وغير ذلك مما هو نموذج من عذاب الاخرة. واما عذاب الاخرة فهو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى. الا وهو عذاب النار. وغضب الجبار حرمانهم ثواب الابرار. وما لهم من ناصرين ينصرونهم من عذاب الله. لا من زعموا انهم شفعاء لهم عند الله. ولا ما اتخذوهم اولياء من دونه ولا اصدقائهم واقربائهم ولا انفسهم ينصرون والله لا يحب الظالمين واما الذين امنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وغير ذلك مما امر الله بالايمان به. وعملوا الصالحات القلبية والقولية والبدنية. التي جاءت بشرعها يسألون وقصدوا بها رضا رب العالمين فيوفيهم اجورهم. دل ذلك على انه يحصل لهم في الدنيا ثواب لاعمالهم من الاكرام والاعزاز والحياة الطيبة وانما توفية الاجور يوم القيامة. يجدون ما قدموه من الخيرات محضرا موفرا. فيعطي منهم كل عامل اجر عمله يزيدهم من فضله وكرمه. والله لا يحب الظالمين. بل يبغضهم ويحل عليهم سخطه وعذابه من الآيات والذكر الحكيم. وهذا منة عظيمة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى امته حيث انزل عليهم هذا الذكر الحكيم المحكم المتقن المفصل للاحكام والحلال والحرام. واخبار الانبياء الاقدمين. وما اجرى الله على من الايات البينات والمعجزات الباهرات. فهذا القرآن يقص علينا كل ما ينفعنا من الاخبار والاحكام. فيحصل فيها العلم والعبرة وتثبيت الفرصة فؤاد ما هو من اعظم رحمة رب العباد؟ ثم قال تعالى خلقه من تراب سم قال له كن فيكون. يخبر تعالى محتجا النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق بغير برهان ولا شبهة بل بزعمهم انه ليس له والد استحق بذلك ان يكون ان الله او شريكا لله في الربوبية وهذا ليس بشبهة. فضلا ان يكون حجة لان خلقه كذلك من ايات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير وان جميع الاسباب طوع مشيئته وتبع لارادته. فهو على نقيض قولهم ادل. وعلى ان احدا لا يستحق المشاركة لله بوجه من وجوه اولى ومع هذا فادم عليه السلام خلقه الله من تراب لا من ام ولا اب. فاذا كان ذلك لا يوجب لادم ما زعمه صار في المسيح فالمسيح المخلوق من ام بلا اب. من باب اولى واحرى. فان صح ادعاء البنوة والالهية في المسيح. فادعائها في ادم من باب اولى واحرى. فلهذا قال تعالى ان مثل عيسى عند الله كمثل ادم خلقه من تراب. ثم قال له كن فيكون الحق من ربك اي هذا الذي اخبرناك به من شأن عليه السلام هو الحق الذي في اعلى رتب الصدق. لكونه من ربك الذي من جملة تربيته الخاصة لك ولامتك. ان قص عليكم ما قص من اخبار الانبياء عليهم السلام. فلا تكن من الممترين اي الشاكين في شيء مما اخبرك به ربك. وفي هذه الاية وما بعدها دليل على كقاعدة شريفة وهو ان ما قامت الادلة على انه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها فانه يجب ان يجزم بان كل ما عارضه فهو باطل وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة. سواء قدر العبد على حلها ام لا. فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه لان ما خالف الحق فهو باطل. قال الله تعالى فماذا بعد الحق الا الضلال؟ وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الانسان اشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون ان حلها الانسان فهو تبرع منه والا فوظيفته ان يبين الحق بادلته ويدعو اليه فمن فيه من بعد ما من العلم انفسنا وانفسكم ثم نبتهل. ثم نبتهل فنجعل لعنة الله الله على الكاذبين. ان هذا لهو القصص الحق وما من اله الا الله ان الله عليم بالمفسدين اي فمن جادلك وحاجك في عيسى عليه السلام وزعم انه فوق منزلة العبودية بل رفعه فوق منزلته من بعد ما جاءك من العلم بانه عبدالله وبينت لمن جادلك ما عندك من من الادلة الدالة على انه عبد انعم الله عليه دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني. فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا نستفيدها هو لان الحق قد تبين. فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله. قصده اتباع الهوى لا اتباع ما انزل الله فهذا ليس فيه حيلة. فامر الله نبيه ان ينتقل الى مباهلته وملاعنته. فيدعون الله ويبتهلون اليه ان يجعل لعنته وعقوبته على من الفريقين هو واحب الناس اليه من الاولاد والابناء والنساء. فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم الى ذلك. فتولوا واعرضوا ونكلوا وعلموا انهم الا عانوه رجعوا الى اهليهم واولادهم. فلم يجدوا اهلا ولا مالا. وعوجلوا بالعقوبة. فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلان وهذا غاية الفساد والعناد. فلهذا قال تعالى فان تولوا فان الله عليم بالمفسدين. فيعاقبهم على ذلك اشد العقوبة واخبر تعالى ان هذا الذي قصه الله على عباده هو القصص الحق. وكل قصص يقص عليهم مما يخالفه ويناقضه. فهو باطل وما من اله الا الله فهو المألوه المعبود حقا. الذي لا تنبغي العبادة الاله. ولا يستحق غيره مثقال ذرة من العبادة. وان الله لهو العزيز الذي قهر كل شيء وخضع له كل شيء الحكيم الذي يضع الاشياء مواضعها وله الحكمة التامة في ابتلاء مؤمنين بالكافرين يقاتلونهم ويجادلونهم ويجاهدونهم بالقول والفعل قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد الا الله اي قل لاهل الكتاب من اليهود والنصارى تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم اي هلموا نجتمع عليها وهي الكلمة التي اتفق عليها الانبياء والمرسلون. ولم يخالفها الا المعاندون والضالون. ليست مختصة في احدنا دون الاخر والمشتركة بيننا وبينكم. وهذا من العدل في المقال والانصاف في الجدال. ثم فسرها بقوله الا نعبد الا الله اولا نشرك به شيئا فنفرد الله بالعبادة ونخصه بالحب والخوف والرجاء ولا نشرك به نبيا ولا ملكا ولا وليا ولا صنما ولا وثنا ولا حيوانا ولا جمادا. ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله. بل تكون الطاعة كلها لله ولرسله. فلا نطيع المخلوقين في في معصية الخالق لان ذلك جعل للمخلوقين في منزلة الربوبية. فاذا دعي اهل الكتاب او غيرهم الى ذلك. فان اجابوا كانوا مثلكم لهم ما لكم وعليه ما عليكم. وان تولوا فهم معاندون متبعون اهواءهم. فاشهدوهم انكم مسلمون. ولعل الفائدة في ذلك انكم اذا قلتم لهم ذلك وانتم اهل العلم على الحقيقة كان ذلك زيادة على اقامة الحجة عليهم. كما استشهد تعالى باهل العلم حجة على المعاندين وايضا فانكم اذا اسلمتم انتم وامنتم فلا يعبأ الله بعدم اسلام غيركم. لعدم زكائهم ولخبث طويتهم. كما قال الله تعالى قل امنوا به او لا تؤمنوا ان الذين اوتوا العلم من قبله اذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا. وايضا فان في ورود الشبهات على العقيدة الايمانية مما يوجب للمؤمن ان يجدد ايمانه ويعلن باسلامه اخبارا بيقينه وشكرا لنعمة ربه في إبراهيم ايمانكم به علم. فلما فيما ليس لكم به علم والله يعلم وانتم لا تعلمون. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين لما ادعى اليهود ان ابراهيم كان يهوديا. والنصارى انه نصراني وجادلوا على ذلك. رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم هم من ثلاثة اوجه احدها ان جدالهم في ابراهيم جدال في امر ليس لهم به علم. فلا يمكن لهم ولا يسمح لهم ان يحتجوا ويجادلوا في امر هم جانب عنه وهم جادلوا في احكام التوراة والانجيل. سواء اخطأوا ام اصابوا فليس معهم المحاجة في شأن ابراهيم. الوجه الثاني ان اليهود ينتسبون الى احكام التوراة. والنصارى ينتسبون الى احكام الانجيل. والتوراة والانجيل ما انزل الا من بعد ابراهيم. فكيف ينسبون رحم اليهم وهو قبلهم متقدم عليهم. فهل هذا يعقل؟ فلهذا قال افلا تعقلون؟ اي فلو عقلتم ما تقولون لم ذلك الوجه الثالث ان الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى والمشركين وجعله حنيفا مسلما وجعل اولى الناس به من امن امن به من امته وهذا النبي وهو محمد صلى الله عليه وسلم ومن امن معه. فهم الذين اتبعوه وهم اولى به من غيرهم. والله على وليهم وناصرهم ومؤيدهم. واما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين. فليسوا من ابراهيم وليس منهم. ولا ينفع هم مجرد الانتساب الخالي من الصواب. وقد اشتملت هذه الايات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير علم. وان من تكلم بذلك فهو متكلم في لا يمكن منه ولا يسمح له فيه. وفيها ايضا حث على علم التاريخ. وانه طريق لرد كثير من الاقوال الباطلة والدعاوى. التي تخالف ما علم في التاريخ ثم قال تعالى وما يضلون الا انفسهم وما يشعرون. يحذر تعالى عباده المؤمنين عن مكر هذه الطائفة الخبيثة من اهل الكتاب وانهم يودون ان يضلوكم. كما قال تعالى ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا ومن المعلوم ان من ود شيئا سعى بجهده على تحصين مراده. فهذه الطائفة تسعى وتبذل جهدها في رد المؤمنين. وادخال الشبه عليهم كل طريق يقدرون عليه. ولكن من لطف الله الا يحيق المكر السيء الا باهله. فلهذا قال تعالى وما يضلون الا انفسهم سعيهم في اظلال المؤمنين زيادة في ضلال انفسهم وزيادة عذاب لهم. قال الله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون. وما يشعرون بذلك انهم يسعون في ضرر انفسهم. وانهم لا يضرونكم شيئا في ثامن ما تكفرون بايات الله وانتم تشهدون. اي ما الذي دعاكم الى الكفر بايات الله؟ مع علمكم بان ما انتم عليه باطل. وان ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم. هو الحق الذي لا تشكون فيه. بل تشهدون به ويسر به بعضكم الى بعض في بعض الاوقات فهذا نهيهم عن ضلالهم ثم وبخهم على اضلالهم الخلق فقال فوبخهم على لبس الحق بالباطل وعلى كتمان الحق لانهم بهذين الامرين يضلون من انتسب اليهم. فان العلماء اذا لبسوا الحق بالباطل فلم يميزوا بينهما بل ابقوا الامر مبهم وكتموا الحق الذي يجب عليهم اظهاره. ترتب على ذلك من خفاء الحق وظهور الباطل ما ترتب. ولم يهتدي العوام الذين يريدون حق لمعرفته حتى يؤثروا. والمقصود من اهل العلم ان يظهروا للناس الحق ويعلنوا به. ويميزوا الحق من الباطل. ويظهر الخبيث من الطيب. والحلال والحرام والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة ليهتدي المهتدون ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين. قال الله تعالى واذ اخذ الله ميثاق الذين اوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه. فنبذوه وراء ظهورهم. ثم اخبر تعالى عما همت به هذه الطائفة الخبيثة وارادة المكر بالمؤمنين. فقال طائفة من اهل الكتاب امنوا بالله وقالت طائفة من اهل الكتاب امنوا بالذي انزل على الذين امنوا وجه النهار واكفروا اخره. اي ادخلوا في دينهم على وجه المكر والكيد اول النهار. فاذا كان اخر النهار فاخرجوا منه لعلهم يرجعون عن دينهم. فيقولون لو كان صحيحا لما خرج منه اهل العلم والكتاب هذا الذي ارادوه عجبا بانفسهم. وظنا ان الناس سيحسنون ظنهم بهم ويتابعونهم على ما يقولونه ويفعلونه. ولكن يأبى الله الا ان يتم نوره ولو كره الكافرون. وقال بعضهم لبعض والله واسع عليم لا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم. اي لا تثقوا ولا تطمئنوا ولا تصدقوا الا من تبع دينكم. واكتموا امركم فانكم اذا امرتم غيركم وغير من هو على دينكم حصل لهم من العلم ما حصل لكم فصاروا مثلكم او حاجوكم عند ربكم وشهدوا عليكم انها عليكم الحجة وتبين لكم الهدى فلم تتبعوه. فالحاصل انهم جعلوا عدم اخبار المؤمنين بما معه من العلم قاطعا عنهم العلم. لان العلم فبزعمهم لا يكون الا عندهم. وموجبا للحجة عليهم. فرد الله عليهم بان الهدى هدى الله. فمادة الهدى من الله تعالى لكل من اهتدى. فان اما علم الحق او ايثاره ولا علم الا ما جاءت به رسل الله ولا موفق الا من وفقه الله. واهل الكتاب لم يؤتوا من العلم الا قليلا واما التوفيق فقد انقطع حظهم منه لخبث نياتهم وسوء مقاصدهم. واما هذه الامة فقد حصل لهم ولله الحمد من هداية الله من العلوم والمعارف مع العمل بذلك ما فاقوا به وبرزوا على كل احد. فكانوا هم الهداة الذين يهدون بامر الله. وهذا من فضل الله عليها واحسانها العظيم فلهذا قال تعالى قل ان الفضل بيد الله اي الله هو الذي يحسن على عباده بانواع الاحسان يؤتيه من يشاء ممن باسبابه والله واسع الفضل كثير الاحسان. عليم بمن يصلح للاحسان فيعطيه. ومن لا يستحقه فيحرمه اياه. يختص والله ذو الفضل العظيم يختص برحمته من يشاء. اي برحمته المطلقة التي تكون في الدنيا متصلة بالاخرة. وهي نعمة الدين ومتمماته. والله ذو الفضل العظيم الذي لا يصفه الواصفون ولا يخطر بقلب بشر. بل وصل فضله واحسانه الى ما وصل اليه علمه. ربنا وسعت كل شيء رحمته وعلما في نار لا يؤدي اليك الا ما دمت عليه قائما. ذلك بانهم قالوا ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. يخبر تعالى عن لاهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الاموال. لما ذكر خيانتهم في الدين ومكرهم وكتمهم الحق. فاخبر ان منهم الخائن والامين. وان من هم من ان تأمنه بقنطار وهو المال الكثير يؤده. وهو على اداء ما دونه من باب اولى. ومنهم من ان تأمنه بدينار لا اليك وهو على عدم اداء ما فوقه من باب اولى واحرى. والذي اوجب اليهم الخيانة وعدم الوفاء اليكم بانهم زعموا انه ليس عليهم في الاميين سبيل. اي ليس عليهم اثم في عدم اداء اموالهم اليهم. لانهم بزعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد. قد احتقروهم غاية احتقار ورأوا انفسهم في غاية العظمة وهم الاذلاء الاحقرون. فلم يجعلوا للاميين حرمة واجازوا ذلك. فجمعوا بين اكل الحرام واعتق وكان هذا كذبا على الله. لان العالم الذي يحلل الاشياء المحرمة قد كان عند الناس معلوم انه يخبر عن حكم الله. ليس يخبر عن نفسه وذلك هو الكذب. فلهذا قال ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. وهذا اعظم اثم من القول على الله بلا علم ما رد عليهم زعمهم الفاسد فقال بلى اي ليس الامر كما تزعمون انه ليس عليكم في الاميين حرج. بل عليكم في ذلك اعظم الحرج واشد الاثم. من اوفى بعهده والعهد يشمل العهد الذي بين العبد وبين ربه. وهو جميع ما اوجبه الله على العبد من حقه. ويشمل العهد الذي بينه وبين العباد. والتقوى تكون في هذا الموضع ترجع الى اتقاء المعاصي التي بين العبد وبين ربه وبينه وبين الخلق. فمن كان كذلك فانه من المتقين الذين يحبهم الله تعالى سواء كانوا من الاميين او غيرهم. فمن قال ليس علينا في الاميين سبيل فلم يوف بعهده ولم يتق الله ولم يكن ممن يحبه الله بل ممن يبغضه الله واذا كان الاميون قد عرفوا بوفاء العهود وبتقوى الله وعدم التجرؤ على الاموال المحترمة كانوا هم المحبوبين المتقين الذين اعدت لهم الجنة وكانوا افضل خلق الله واجلهم. بخلاف الذين يقولون ليس علينا في الاميين سبيل. فانهم داخلون هنا في قوله ولا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ان الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا. ويدخل في ذلك كل من اخذ شيئا من الدنيا في مقابلة ما تركه من حق الله او حق عباده. وكذلك من حلف على يمين يقتطع بها مال معصوم. فهو داخل في هذه الاية. فهؤلاء لا خلق لهم في الاخرة اي لا نصيب لهم من الخير ولا يكلمهم الله يوم القيامة غضبا عليهم وسخطا. لتقديمهم هوى انفسهم على رضا ربهم ولا يزكيهم اي يطهرهم من ذنوبهم. ولا يزيل عيوبهم ولهم عذاب اليم. موجع للقلوب والابدان. وهو عذاب السخط والحجاب وعذاب جهنم نسأل الله العافية احسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب. ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله يخبر تعالى ان من اهل الكتاب فريقا يلوون السنتهم بالكتاب ان يميلونه ويحرفونه عن المقصود به. وهذا يشمل اللي والتحريف لالفاظه ومعانيه. وذلك ان المقصود من الكتاب حفظ وعدم تغييرها وفهم المراد منها وافهامه. وهؤلاء عكسوا القضية وافهموا غير المراد من الكتاب. اما تعريضا واما تصريحا فالتعريض في قوله لتحسبوه من الكتاب اي يلوون السنتهم ويوهمونكم انه هو المراد من كتاب الله وليس هو المراد والتصريح في قولهم ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. وهذا اعظم جرأ ممن يقول على الله علم فهؤلاء يقولون على الله الكذب. فيجمعون بين نفي المعنى الحق واثبات المعنى الباطل. وتنزيل اللفظ الدال على الحق على المعنى الفاسد مع علمهم بذلك ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة. ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله. ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وهذه الاية نزلت ردا لمن قال من اهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم لما امرهم بالايمان به ودعاهم الى طاعته اتريد يا محمد ان نعبدك مع الله؟ فقوله ما كان لبشر ان يمتنع ويستحيل على بشر من الله عليه بانزال كتاب وتعليمه ما لم يكن يعلم. وارساله للخلق ان يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله. فهذا من امحل المحال صدوره من احد من الانبياء عليهم افضل الصلاة والسلام. لان هذا اقبح الاوامر على الاطلاق. والانبياء اكمل الخلق على الاطلاق. فاوامرهم تكون مناسبة لاحوالهم فلا يأمرون الا بمعالي الامور. وهم اعظم الناس نهيا عن الامور القبيحة. فلهذا قال ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون. اي ولكن يأمرهم بان يكونوا ربانيين. اي علماء حكماء حلماء. معلمين للناس ومربيهم بصغار العلم قبل كباره. عاملين بذلك فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم. التي هي مدار السعادة وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل والباء في قوله بما كنتم تعلمون باء السببية. اي بسبب تعليمكم لغيركم. المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله نبيه التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى تكونون ربانيين ايأمركم بالكفر بعد اذ انتم مسلمون. ولا اراكم ان تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا. وهذا تعميم بعد تخصيص. اي لا يأمركم بعبادة نفسه. ولا بعبادة احد من الخلق. من الملائكة والنبيين وغيرهم ايأمركم بالكفر بعد اذ انتم مسلمون؟ هذا ما لا يكون ولا يتصور ان يصدر من احد من الله عليه النبوة فمن قدح في احد منهم بشيء من ذلك فقد ارتكب اثما عظيما وكفرا وخيما وان اخذ الله ميثاق النبيين لما اتيتكم من كتاب وحكمة. ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم قال يخبر تعالى انه اخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد. بسبب ما اعطاهم من كتاب الله المنزل. والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى او الضلال انه ان بعث الله رسولا مصدقا لما معهم ان يؤمنوا به ويصدقوه. ويأخذوا ذلك على اممهم. فالانبياء عليهم الصلاة والسلام قد اوجب الله عليهم ان يؤمن بعضهم ببعض. ويصدق بعضهم بعضا. لان جميع ما عندهم هو من عند الله. وكل ما من عند الله يجب التصديق به ايمان فهم كالشيء الواحد فعلى هذا قد علم ان محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم فكل الانبياء عليهم الصلاة والسلام لو لوجب عليهم الايمان به واتباعه ونصرته. وكان هو امامهم ومقدمهم ومتبوعهم. فهذه الاية الكريمة من اعظم الدلائل على علو مرتبته وجلالة قدره. وانه افضل الانبياء وسيدهم صلى الله عليه وسلم. لما قررهم تعالى قالوا اقررنا اي قبلنا اما امرتنا به على الرأس والعين؟ قال الله لهم فاشهدوا على انفسكم وعلى اممكم بذلك. قال وانا معكم من الشاهدين من تولى بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون. فمن تولى بعد ذلك العهد والميثاق المؤكد الشهادة من الله ومن رسله. فاولئك هم الفاسقون. فعلى هذا كل من ادعى انه من اتباع الانبياء كاليهود والنصارى ومن تبعهم. فقد تولوا عن هذا الميثاق الغليظ واستحقوا الفسق الموجب للخلود في النار. ان لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم افغير دين الله يبغون وله اسلم من في السماوات والارض طوعا اي اي يطلب الطالبون ويرغب الراغبون في غير دين الله. لا يحسن هذا ولا يليق لانه فاحسنوا دينا من دين الله وله اسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها. اي الخلق كلهم منقادون بتسخيره. مستسلمون له طوعا واختيار وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم وكرها وهم سائر الخلق. حتى الكافرون مستسلمون لقضائه وقدره. لا الخروج لهم عن ولا امتناع لهم منه. واليه مرجع الخلائق كلها فيحكم بينهم ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل ان بالله وما انزل علينا وما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والنبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم فنحن له مسلمون. تقدم نظير هذه الاية في سورة البقرة. ثم قال تعالى اي من يدين لله بغير دين الاسلام الذي ارتضاه الله لعباده. فعمله مردود غير مقبول. لان دين الاسلام هو المتضمن للاستسلام لله. اخلاصا وانقيادا لرسله. فما لم يأت به العبد لم يأتي بسبب النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه. وكل دين سواه فباطل. ثم قال تعالى الله قوما كفروا بعد ايمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات آآ هذا من باب الاستبعاد اي من الامر البعيد ان يهدي الله قوما الكفر والضلال بعدما امنوا شهدوا ان الرسول حق. بما جاءهم به من الايات البينات والبراهين القاطعات. والله لا يهدي القوم الظالمين فهؤلاء ظلموا وتركوا الحق بعدما عرفوه واتبعوا الباطل مع علمهم ببطلانه ظلما وبغيا واتباعا لاهوائهم. فهؤلاء لا يوفقون للهداية لان الذي يرجى ان يهتدي هو الذي لم يعرف الحق وهو حريص على التماسه. فهذا بالحري ان ييسر الله له اسباب الهداية. ويصونه من اسباب رواية ثم اخبر عن عقوبة هؤلاء المعاندين الظالمين الدنيوية والاخروية فقال ان عليهم لعنة الله آآ الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور رحيم اولئك جزاؤهم ان عليهم لعنة الله والملائكة والناس اجمعين. خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون. اي لا يفتح عنهم العذاب ساعة ولا لحظة. لا بازالته او ازالة بعض شدته. ولا هم ينظرون اي يمهلون. لان زمن الامهال قد مضى. وقد اعذر الله منهم وعمرهم ما يتذكر فيه من تذكر. فلو كان فيهم خير لوجد ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ان الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم واولئك هم يخبر تعالى ان من كفر بعد ايمانه ثم ازداد كفرا الى كفره بتماديه في الغيب والضلال واستمراره على ترك الرشد والهدى انه لا تقبل توبتهم. اي لا يوفقون لتوبة تقبل. بل يمدهم الله في طغيانهم قال تعالى ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة. فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم فالسيئات ينتج بعضها بعضا. وخصوصا لمن اقدم على الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم. وقد قامت عليه الحجة ووضح الله له الايات والبراهين فهذا هو الذي سعى في قطع اسباب رحمة ربه عنه. وهو الذي سد على نفسه باب التوبة. ولهذا حصل الضلال في هذا الصنف. فقال واولئك هم هم الضالون واي ضلال اعظم من ضلال من ترك الطريق عن بصيرة لهم عذاب اليم وما لهم من ناصرين وهؤلاء الكفرة اذا استمروا على كفرهم الى الممات تعين هلاكهم وشقاؤهم الابدي ولم ينفعهم شيء. فلو انفق احدهم ملء الارض ذهبا ليفتدي به من عذاب الله ما نفعه ذلك. بل لا يزالون في العذاب الاليم لا شافع لهم ولا ناصر ولا مغيث ولا مجير ينقذهم من عذاب الله فايسوا من كل خير وجزموا على الخلود الدائم في العقاب والسخط. فعياذا بالله من حالهم. لن تنالوا وما تنفقوا من شيء هذا حث من الله لعباده على الانفاق في طرق الخيرات فقال لن تنالوا اي تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من انواع الطاعات وانواع المثوبات الموصل لصاحبه الى الجنة حتى تنفقوا مما تحبون اي من اموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم فانكم اذا قدمتم محبة الله على محبة الاموال فبذلتموها في مرضاته ذلك على ايمانكم الصادق. وبر قلوبكم ويقين تقواكم. فيدخل في ذلك انفاق نفائس الاموال. والانفاق في حالة حاجة المنفق الى ما انفقه والانفاق في حالة الصحة ودلت الاية ان العبد بحسب انفاقه للمحبوبات يكون بره. وانه ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك ولما كان الانفاق على اي وجه كان مثابا عليه العبد سواء كان قليلا او كثيرا محبوبا للنفس ام لا وكان قوله لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون. مما يوهم ان انفاق غير هذا المقيد غير نافع. احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله. وما تنفقوا من شيء فان الله به عليم. فلا يضيق عليكم بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه