سيقول السفاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها آآ يقين قد اشتملت الاية الاولى على معجزة وتسلية وتطمين قلوب المؤمنين واعتراض وجوابه من ثلاثة اوجه وصفة المعترض وصفة المسلم لحكم الله ودينه. فاخبر تعالى انه سيعترض السفهاء من الناس. وهم الذين لا يعرفون مصالح انفسهم بل يضيعونها ويبيعونها بابخس ثمن. وهم اليهود والنصارى ومن اشبههم من المعترضين على احكام الله وشرائعه. وذلك ان المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس مدة مقامهم بمكة. ثم بعد الهجرة الى المدينة نحو سنة ونصف. لما لله تعالى في ذلك من الحكم التي سيشير الى بعضها. وكانت حكمته تقتضي امرهم باستقبال الكعبة. فاخبرهم انه لابد ان يقول السفهاء من الناس ما عن قبلتهم التي كانوا عليها. وهي استقبال بيت المقدس. اي شيء صرفهم عنه. وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه وفضله باحسانه. فسلاهم واخبر بوقوعه وانه انما يقع ممن اتصف بالسفه. قليل العقل والحلم والديانة فلا تبالوا بهم. اذ قد علم مصدر هذا الكلام فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه. ولا يلقي له ذهنه. ودلت الاية على انه لا يعترض على احكام الله الا سفيه اهل معاند واما الرشيد المؤمن العاقل فيتلقى احكام ربه بالقبول والانقياد والتسليم. كما قال الله تعالى وما كان لمؤمن ان ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم. فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم انما كان قول المؤمنين اذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم ان يقولوا سمعنا واطعنا. وقد كان في قوله السفهاء ما يغني عن رد قولهم وعدم المبالاة به. ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة حتى ازالها وكشفها. مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض. فقال تعالى قل لهم مجيبا لله المشرق والمغرب. يهدي من يشاء الى صراط مستقيم. اي اذا كان المشرق والمغرب ملكا لله ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه. ومع هذا يهدي من يشاء الى صراط مستقيم. ومنه هدايتكم الى هذه القبلة التي هي من ملة ابيكم ابراهيم. فلاي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله. لم تستقبلوا جهة ملك الله فهذا يوجب التسليم لامره بمجرد ذلك. فكيف وهو من فضل الله عليكم وهدايته واحسانه ان هداكم لذلك فالمعترض عليكم معترض على فضل الله حسدا لكم وبغيا. ولما كان قوله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم. والمطلق يحمل على المقيد فان الهداية والضلال لهما اسباب اوجبتها حكمة الله وعدله. وقد اخبر في غير موضع من كتابه باسباب الهداية. التي اذا اتى بها العبد حصل له الهدى. كما قال تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام. ذكر في هذه الاية السبب الموجب بداية هذه الامة مطلقا بجميع انواع الهداية ومنة الله عليها. فقال وكذلك جعلناكم امة ويكون وكذلك جعلناكم امة وسطا اي عدلا خيارا وما عدا الوسط فاطراف داخلة تحت فجعل الله هذه الامة وسطا في كل امور الدين وسطا في الانبياء بين من غلا فيهم كالنصارى وبين من جفاهم كاليهود بان امنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك ووسطا في الشريعة. لا تشديدات اليهود واصارهم ولا تهاون النصارى. وفي باب الطهارة والمطاعم لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة الا في بيعهم وكنائسهم. ولا يطهرهم الماء من النجاسات. وقد حرمت عليهم طيبات عقوبة لهم ولكن نصارى الذين لا ينجسون شيئا ولا يحرمون شيئا. بل اباحوا ما دب ودرج. بل طهارتهم اكمل طهارة واتمها واباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح. وحرم عليهم الخبائث من ذلك. فلهذه الامة من الدين اكمله. ومن الاخلاق اجلها ومن الاعمال افضلها. ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والاحسان. ما لم يهبه لامة سواهم. فلذلك كانوا امة وسط كاملين ليكونوا شهداء على الناس بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط. يحكمون على الناس من سائر اهل الاديان. ولا يحكم وعليهم غيرهم. فمن شهدت له هذه الامة بالقبول فهو مقبول. وما شهدت له بالرد فهو مردود. فان قيل كيف يقبل حكمهم على والحال ان كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض. قيل انما لم يقبل قول احد المتخاصمين لوجود التهمة. فاما ما اذا انتفت التهمة وحصلت العدالة التامة كما في هذه الامة. فانما المقصود الحكم بالعدل والحق. وشرط ذلك العلم والعدل. وهما موجودون السودان في هذه الامة فقبل قولها فان شك شاك في فضلها وطلب مزكيا لها فهو اكمل الخلق نبيهم صلى الله عليه وسلم فلهذا قال تعالى ويكون الرسول عليكم شهيدا. ومن شهادة هذه الامة على غيرهم انه اذا كان يوم القيامة. وسأل الله المرسلين عن تبليغهم والامم المكذبة عن ذلك. وانكروا ان الانبياء بلغتهم استشهدت الانبياء بهذه الامة. وزكاها نبيها وفي الاية دليل على ان اجماع هذه الامة حجة قاطعة. وانهم معصومون عن الخطأ لاطلاق قوله وسطا. فلو قدر اتفاقهم على الخطأ لم يكونوا وسطا الا في بعض الامور. ولقوله لتكونوا شهداء على الناس. يقتضي انهم اذا شهدوا على حكم ان الله احله او حرمه او اوجب فانها معصومة في ذلك. وفيها اشتراط العدالة في الحكم والشهادة والفتية ونحو ذلك. يقول تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول وان كانت لكبيرة الله! وما كان الله ليضيع ايمانكم ان الله بالناس لرؤوف وما جعلنا القبلة التي قمت عليها وهي استقبال بيت المقدس اولا الا لنعلم اي علما به الثواب والعقاب والا فهو تعالى عالم بكل الامور قبل وجودها. ولكن هذا العلم لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا بتمام عدله واقامة الحجة على عباده. بل اذا وجدت اعمالهم ترتب عليها الثواب والعقاب. اي شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن من يتبع الرسول ويؤمن به فيتبعه على كل حال. لانه عبد مأمور مدبر. ولانه قد اخبرت الكتب المتقدمة انه الكعبة فالمنصف الذي مقصوده الحق مما يزيده ذلك ايمانا وطاعة للرسول. واما من انقلب على عقبيه واعرض عن الحق اتبع هواه فانه يزداد كفرا الى كفره. وحيرة الى حيرته ويدلي بالحجة الباطلة المبنية على شبهة لا حقيقة لها وان كانت اي صرفك عنها لكبيرة اي شاقة الا على الذين هدى الله. فاعرفوا بذلك نعمة الله عليهم وشكروا واقروا بالاحسان حيث وجههم الى هذا البيت العظيم. الذي فضله على سائر الارض وجعل قصده ركنا من اركان الاسلام. وهادما للذنوب والاثام. فلهذا خف عليهم ذلك وشق على من سواهم. ثم قال تعالى وما كان الله ليضيع ايمانكم اي ما ينبغي له ولا يليق به تعالى بل هي من الممتنعات عليه. فاخبر انه ممتنع عليه ومستحيل ان يضيع ايمانكم. وفي هذا بشارة عظيمة كل من من الله عليهم بالاسلام والايمان بان الله سيحفظ عليهم ايمانهم فلا يضيعه. وحفظه نوعان حفظ عن الضياع والبطلان لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص. من المحن المقلقة والاهواء الصادة. وحفظ له بتنميته لهم وتوفيقهم لما يزداد به ايمانهم ويتم به ايقانهم. فكما ابتدأكم بان هداكم للامام فسيحفظه لكم ويتم نعمته بتنميته وتنمية اجره وثوابه وحفظه من كل مكدر. بل اذا وجدت المحن التي المقصود منها تبيين المؤمن الصادق من الكاذب. فانها تمحص المؤمنين وتظهر وكأن في هذا احترازا عما يقال ان قوله وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين ايمانهم فدفع هذا الوهم بقوله وما كان الله ليضيع ايمانكم بتقدير لهذه المحنة او غيرها. ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة. فان الله لا يضيع ايمانهم. لكونه ممتثلوا امر الله طاعة رسوله في وقتها وطاعة الله امتثال امره في كل وقت بحسب ذلك. وفي هذه الاية دليل لمذهب اهل السنة والجماعة ان ايمان تدخل فيه اعمال الجوارح. وقوله ان الله بالناس لرؤوف رحيم. اي شديد الرحمة بهم عظيمها. فمن رأفته ورحمته بهم ان يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها. وان ميز عنهم من دخل في الايمان بلسانه دون قلبه. وان امتحنهم امتحانا زاد به ايمانهم وارتفعت به درجتهم وان وجههم الى اشرف البيوت واجلها وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعمل يقول الله لنبيه قد نرى تقلب وجهك في السماء. اي كثرة تردده في جميع جهاته. شوقا وانتظارا لنزول للوحي باستقبال الكعبة وقال وجهك ولم يقل بصرك لزيادة اهتمامه. ولان تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر لنولينك اي نوجهك لولايتنا اياك. قبلة ترضاها اي تحبها وهي الكعبة. وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم حيث ان الله تعالى يسارع في رضاه ثم صرح له باستقبالها فقال فولي وجهك شطر المسجد الحرام والوجه ما اقبل من بدن الانسان وحيثما كنتم اي من بر وبحر شرق وغرب جنوب وشمال فولوا وجوهكم شطرة اي جهته ففيها اشتراط استقبال الكعبة للصلوات كلها. فرضها ونفلها. وانه ان امكن استقبال عينها. والا فيكفي شطرها وجهتها ان الالتفات بالبدن مبطل للصلاة. لان الامر بالشيء نهي عن ضده. ولما ذكر تعالى فيما تقدم المعترضين على ذلك من اهل الكتاب وغيرهم ذكر جوابهم ذكر هنا ان اهل الكتاب والعلم منهم يعلمون انك في ذلك على حق وامر لما يجدونه في كتبهم فيعترضون فاذا كانوا يعلمون بخطأهم فلا تبالوا بذلك. فان الانسان انما يغمه اعتراض من اعترض عليه. اذا كان الامر مشتبها وكان ممكنا ان يكون معه صواب. فاما اذا تيقن ان الصواب والحق مع المعترض عليه وان المعترض معاند. عارف ببطلان قوله فانه لا محل للمبالاة. بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والاخروية. فلهذا قال تعالى وما الله بغافل عما يعملون بل يحفظ عليهم اعمالهم ويجازيهم عليها وفيها وعيد للمعترضين وتسلية للمؤمنين ولئن اتبعت من بعد ما جاءك من العلم انك اذا انك اذا لمن الظالمين. كان النبي صلى الله عليه وسلم من كمال حرصه على هداية الخلق. يبذل لهم غاية ما يقدر عليه من النصيحة. ويتلطف بهدايتهم ويحزن اذا لم ينقادوا لامر الله. فكان من الكفار من تمرد عن امر الله واستكبر على رسول الله وترك الهدى عمدا وعدوانا. فمنهم اليهود والنصارى. اهل الكتاب الاول الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم عن يقينه لا عن جهل. فلهذا اخبره الله تعالى انك لو اتيت الذين اوتوا الكتاب بكل اية. اي بكل برهان ودليل يوضح قولك ويبين ما تدعو اليه ما تبعوا قبلتك. اي ما تبعوك. لان اتباع القبلة دليل على اتباعه. ولان السبب هو شأن القبلة. وانما كان الامر كذلك لانه معاندون. عرفوا الحق وتركوه. فالايات انما تفيد وينتفع بها من يتطلب الحق وهو مشتبه عليه. فتوضح له ايات البينات. واما من جزم بعدم اتباع الحق فلا حيلة فيه. وايضا فان اختلافهم فيما بينهم حاصل. وبعضهم غير تابع قبلة بعض فليس بغريب منهم مع ذلك الا يتبعوا قبلتك يا محمد. وهم الاعداء حقيقة. الحسدة وقوله وما انت بتابع قبلتك ابلغ من قوله ولا تتبع لان ذلك يتضمن انه صلى الله عليه وسلم اتصف بمخالفتهم فلا يمكن وقوع ذلك منه ولم يقل ولو اتوا بكل اية لانهم لا دليل لهم على قولهم. وكذلك اذا تبين الحق بادلته اليقينية لم يلزم الاتيان باجوبة الشبه الواردة عليه لانه لا حد لها. ولانه يعلم بطلانها. للعلم بان كل ما نافى الحق الواضح فهو باطل. فيكون محل الشبه من باب التبرع. ولئن اتبعت اهواءهم انما قال اهواءهم. ولم يقل دينهم. لان ما هم عليه مجرد تهوية نفس حتى هم في قلوبهم يعلمون انه ليس بدين. ومن ترك الدين اتبع الهوى ولا محالة. قال تعالى افرأيت من اتخذ الهه هواه. من بعد ما جاءك من العلم بانك على الحق وهم على الباطل. انك اذا اي ان اتبعتهم فهذا احتراز لالا تنفصل هذه الجملة عما قبلها ولو في الافهام لمن الظالمين. اي داخل فيهم ومندرج في جملتهم. واي ظلم اعظم من ممن علم الحق والباطل فاثر الباطل على الحق. وهذا وان كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم فان امته داخلة في ذلك. وايضا فاذا كان هو صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك وحاشاه صار ظالما مع علو مرتبته وكثرة حسناته. فغيره من باب اولى