المكتبة الصوتية للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وصلى الله على محمد واله وصحبه وسلم. اما بعد فهذه فوائد مستنبطة من قصة يوسف صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الانبياء والمرسلين. فان الله تعالى قصها علينا مبسوطة. وقال في اخرها لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب. والعبرة ما يعتبر به ويعبر منه الى معان واحكام نافعة توجيهات الى الخيرات وتحذير من المهلكات. وقصص الانبياء كلها كذلك. ولكن هذه القصة خصها الله بقوله لقد كان في يوسف واخوته ايات للسائلين. فيها ايات وعبر منوعة لكل من يسأل ويريد الهدى والرشاد لما فيها من التنقلات من حال الى حال. ومن منحة الى محنة ومنة. ومن ذلة ورق الى عز وملك. ومن وشتات الى اجتماع وادراك غايات. ومن حزن وترح الى سرور وفرح. ومن رخاء الى جدب ومن جدب الى رخاء ومن ضيق الى سعة. الى غير ذلك مما اشتملت عليه هذه القصة العظيمة. فتبارك من قصها ووضحها وبينها فمن فوائد هذه السورة ان فيها اصولا لعلم تعبير الرؤيا. فان علم تعبير الرؤيا علم عظيم. منهم من بناه على حسن الفهم والعبور من الالفاظ والمحسوسات والمعنويات. او ما يناسبها بحسب حال الرائي وبحسب الوقت والحال المتعلقة الرؤيا وقد اثنى الله على يوسف عليه السلام بعلمه بتأويل الاحاديث. تأويل الاحاديث الاحكام الشرعية والاحاديث المتعلقة بتعبير الرؤيا والفرق بين الاحلام التي هي اضغاث احلام لا تأويل لها. مثلما يراه من يفكر ويطيع تأمله لبعض الامور. فانه كثيرا ما يرى في منامه من جنس ما يفكر به في يقظته. فان هذا النوع الغالب عليه انه اضغاث احلام لا تعبير له. وكذلك نوع اخر ما يلقيه الشيطان على روح النائم من المرائي الكاذبة. والمعاني المتخبئة فهذه ايضا لا تعبير لها. ولا ينبغي للعاقل ان يشغل بها فكرة. بل ينبغي له ان يلهى عنها. واما الرؤيا الصحيحة هي الهامات يلهمها الله للروح عند تجردها عن البدن وقت النوم. او امثال مضروبة يضربها الملك للانسان ليفهم بها ما يناسبها وقد يرى الشيء على حقيقته ويكون تعبيره هو ما رآه في منامه. فيوسف صلى الله عليه وسلم اعطاه الله من العلم ما يميز به بين المراعي الصحيحة والباطلة والحق والباطل منها. وهذه القصة فيها الدلالة على تعبير الرؤيا من وجوه احدها رؤيا يوسف التي قصها على ابيه يعقوب صلى الله عليه وسلم. اذ قال يوسف لابيه يا ابتي اني رأيت احد عشر كوكبا. والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. ففسرها يعقوب صلى الله عليه وسلم بغاياتها وما تؤول اليه وبوسائلها التي تتقدم عليها. ففسر الشمس والقمر بابي يوسف وامه. والكواكب الاحد عشر باخوته. وان الحال سيكون مآلها ان الجميع لا يسجدون ليوسف ويخضعون له. ولهذا لما حصل الاجتماع ودخل ابوه وامه واخوه اخوته مصر ورفع ابويه على العرش خر الجميع له سجدا. وقال يوسف متذكرا ذلك التعبير والتفسير. يا ابتي هذا تأويل رؤياي من قبل. قد جعلها ربي حقا. وهذا امر عظيم اتصل بيوسف في الحال ان يكون معظما تعظيما بليغا عند ابويه واخوته. وكذلك عند الناس. وهذه الغاية تستدعي وسائل ومقدمات لا تحصل الا بها. وهو علم الكثير العظيم. والعمل الصالح والاخلاص والاجتباء من الله. والقيام بحق الله وحقوق الخلق. فلهذا قال سبحانه وفي ذكر السبب الموصل لهذه الغاية الجليلة. وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث. ويتم نعمة عليك وعلى ال يعقوب. كما اتمها على ابويك من قبل ابراهيم واسحاق. ان ربك عليم حكيم يعني لابد ان يتم الله عليك نعمته بتعليم العلوم النافعة والاعمال الصالحة والاجتباء من الله وحصول الاخلاق جميلة والمقامات الجليلة فتبشره بحصول هذه الامور. ثم بالوصول الى الرفعة في الدنيا والاخرة. وفي ضمن هذا التعبير من يعقوب ليوسف بشارة له. وتسهيل لما سيناله من المشقات والكروب مع اخوته. وفي السجن فان من علم ان المكاره والمشقات تفضي الى الخير والراحات. تسلى وهانت عليه مشقتها وسهلت عليه وطأتها. وحصل له بذلك من اللطف والروح شيء عظيم. وهذا من جملة اللطف الذي اشار اليه يوسف في قوله ان ربي لطيف لما يشاء. وهذا من مقتضى حكمة الله ان المراتب العاليات لا تنال الا بالوسائل الجليلة. ولهذا قال ان ربك عليم حكيم من فوائد هذا التعبير لرؤيا يوسف بشارة عظيمة ليعقوب وام يوسف واخوته. بحصول الرفعة والصلاح والخير. فيعقوب صلى الله عليه وسلم من اكابر الانبياء وافاضل الاصفياء. وامه لها من الخير والصلاح والرفعة في الدنيا والاخرة. حيث شبهت الشمس او بالقمر على اختلاف القولين. واخوة يوسف وان كان قد جرى منهم في حق ابيهم واخيهم من الاذية والعقوق والقطيعة ما جرى ولكن اباهم واخاهم عفوا عنهم واستغفار الله تعالى ارحم الراحمين. فالشمس والقمر والنجوم تضمنت النور ارتفاع ولكنها متفاوتة في نورها بحسب التفاوت بين الابوين والاخوة. فالحاصل ان هذه الرؤيا تضمنت ما حصل يوسف صلى الله عليه وسلم من خير الدنيا والاخرة والمقامات العظيمة والوسائل والمنن التي اوردتها هذه الامور ما حصل لابويه واخوته من مشاركته في خير الدنيا والاخرة. والله تعالى اعلم. الفصل الاول. واما رؤيا الفتاوى حيث قال احدهما اني اراني اعصر خمرا. فقال الاخر اني اراني احمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير ومنة نبئنا بتأويله فتلطفوا ليوسف ان ينبأهما بتأويل رؤياهما. لما شاهدوا من احسانه للاشياء واحسانه الخلق. ففسر رؤيا من رأى انه يعصر خمرا انه ينجو من سجنه. ويعود الى مرتبته وخدمته لسيده. فيعصر له العنب الذي يؤول الى الخمر. وفسر رؤيا الاخر بانه يقتل ثم يسلب فتأكل الطير من رأسه. فالاول رؤياه جاءت على وجهي الحقيقة والاخر رؤياه جاءت على وجه المثال وانه يقتل ومع قتله يصلب ولا يدفن حتى تأكل الطيور من رأسه وهذا من الفهم العجيب والغوص الى المعاني الدقيقة. وذلك ان العادة ان المقتول يدفن في الحال. ولا تتمكن السباع الطيور من الاكل منه. ففهم ان هذا سيقتل ولا يدفن سريعا حتى يصل الى هذه الحال. وفي هذا من فضيحته وخزيته وسوء مصيره الدنيوي ما تقشعر منه الجلود. وحيث علم ان هذه الرؤيا صحيحة لابد من وقوعها. قال لهما قضي امر الذي فيه تستفتيان. وهذا من كمال علمه للتعبير الذي لا يعبر عن ظن وتوهم وانما يعبر عن علم ويقين واما المناسبة في ذلك ان الطيور لا تقرب الحي وانما تتناول الميت اذا لم يكن عنده احد. وهذا انما يكون بعد قتل وصلبه. ومن كمال يوسف ونصحه وفطنته العجيبة انهما لما قصا عليه رؤياهما تأنى في تعبيرها ووعده بتعبيرها في اسرع وقت فقال لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل ان يأتيكما ووعدهما بتعبيرها قبل اول طعام يأتيهما من خارج السجن ليطمئن ويشتاق الى تعبيرها وليتمكن من دعوته ليكون ادعى لقبول الدعوة الى الله. لان الدعوة لهما الى الله اعظم من تعبير رؤياهما. فدعاهما الى الله احدهما بحاله وما هو عليه من الوصف الجميل الذي اوصله الى هذه الحالة الرفيعة بقوله ذلكما مما ربي اني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون. واتبعت ملة ابائي ابراهيم واسحاق ويعقوب. ما كان لنا ان نشرك بالله من شيء. ذلك من فضل الله علينا الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون. الامر الثاني دعاهما بالبرهان الحقيقي الفطري. فقال يا صاحبي السجن ارباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه الا اسماء سميتموه انتم واباؤكم ما انزل الله بها من سلطان. ان الحكم الا لله امر الا تعبدوا الا اياه ذلك الدين القيم. ولكن اكثر الناس لا يعلمون. فان من توحد بالكمال من كل وجه. وبالقهر للعالم العلوي والسفلي. المستحقة للالوهية الكاملة الذي خلق الخلق لعبادته وامرهم بها. وله الحكم على عباده في والاخرة هو الذي لا تنبغي العبادة الاله وحده. دون المعبودات الناقصة المتفرقة. التي كان كل قوم دعونا الهيتها وليس فيها من معاني الالهية شيء ولا استحقاق. وانما هي اسماء اصطلحوا على تسميتها. اسماء كن بلا معنى. فرأى صلى الله عليه وسلم دعوتهما الى الله اولى بالتقديم. على تفسير رؤياهما وانفع لهما ولغيرهما الفصل الثاني. واما رؤيا الملك فانه رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف. وسبع سم خضري يأكلهن ويستولي عليهن سبع سنبلات يابسات ضعيفات. فهالته وجمع لها كل من يظن فيه المعرفة. فلم يكن عند احد منهم علم بتعبيرها. وقالوا اضغاث احلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين وبعد هذا تفطن الذي خرج من السجن بحالة يوسف. وما عليه من العلم العظيم. وتفطن لوصيته التي انساه شيطان ذكر ربه لحكمة قد فصح امرها. وانه لا يخرج من السجن الا بعد اشتهاره. تميزه العظيم على الناس بتعبير رؤيا الملك. فطلب هذا الرجل من الملك ان يرسله الى يوسف. وانه كفيل بمعرفة تفسيرها. فلما جاء يوسف قال له يوسف ايها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات. فان الملك والناس معه ارسلوني اليك لتفسيرها لهم. وهم بانتظار ذلك متشوقين اليه غاية التشوق. ولهذا قال لعلي ارجع الى الناس لعلهم يعلمون. ما اهم الملك وازعجه ولاعه؟ ففي حالي فسرها يوسف صلى الله عليه وسلم وزادهم مع التفسير حسن العمل بها وحسن التدبير. فاخبرهم ان البقرة السنان والسنابل السبعة الخضرات هي سنون رخاء وخصب متواليات. تتقدم على السنين المجدبات. وان البقرة العجاف اليابسات سنون جدب تليها. واما بعد هذه السنين المجدبات عاما فيه يغاث الناس وفيه يعصرون وانه ينبغي لهم في السنين المخصبات ان ينتهزوا الفرصة ويعدوا العدة للسنين الشديدات. فيزرعون زروعا هائلة بكثير من المعتاد. ولهذا قال تزرعون سبع سنين دأبا. ومن المعلوم ان جميع السنين يزرع الناس. لكن انه اراد منهم ان يزرعوا زروعا كثيرة. ويبذلوا قواهم في كل ما يقدرون عليه. وانهم يحتاطون في الغلات اذا حصلت بالتحصين والاقتصاد. فقال فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون. اي احفظوا الحاصلات من الزرع حفظا تسلم به من الفساد والسوس. بان تبقى في سنابلها ويقتصدون في هذه المدة مدة الرخاء فلا في الانفاق بل يأكلون القليل ويحفظون الكثير. وان بعد هذه السنين المخصبات سيأتي سبع سنين مجدبات شديدات تشمل الديار المصرية وما حولها. وانها تأكل ما قدم لها مما حفظ في سنين الخصب الا قليلا من ما تحصنون ووجه المناسبة انه كما تقدم ان الرؤيا تعبر بحال رائيها. والمناسبات المتعلقة بها كالرأي لها الملك الذي تتعلق به اركان الرعية وامورها. ولهذا كانت رؤياه ليست خاصة له. بل تشمل الناس والرعية ووجه بالمناسبة في تفسير البقرات والسنابل بالسنين ظاهر في البقر من وجهين. احدهما انها هي التي في الغالب يحرث عليها الارض والحروث والزروع وتوابعها تبع للسنين في خصبها وجذبها. والوجه الثاني البقر من المواشي التي سمنها وعجافها تبع للسنين ايضا. فاذا اخصبت سمنت واذا اجدبت عجفت وهزلت. وكذلك السنابل تزهو وتكمل وتنمو مع كثرة الماء والسنين المخصبات. وتضعف وتيبس مع السنين المجدبات. فكانت رؤياه في البقرة سنابل من اوصاف السنين واثارها. ومن ذكر الوسائل والغايات. فالحرث للاراضي وسيلة ونمو الزرع وحصول السمن المواشي هو الغاية من ذلك والمقصود. واما قوله ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون اي يحصل للناس فيه غيث مغيث تعيد الاراضي خصبها ويزول عنها جدبها وذلك مأخوذ من من تقييد السنين المجدبات بالسبع. فدل هذا القيد على انه يلي هذه السبع ما يزيل شدتها ويرفع جذبها معلوم ان توالي سبع سنين مجدبات لا يبقي في الارض من اثار الخضر والنبات والزروع ونحوها. لا قليلا ولا كثيرا ولا يرفع هذا الجدب العظيم الا غيث عظيم. وهذا ظاهر جدا اخذه من رؤيا الملك. ومن العجيب ان التفاسير التي وقفت عليها لم تذكر هذا المعنى مع وضوحه. بل قالوا لعل يوسف صلى الله عليه وسلم جاءه وحي خاص في هذا العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. والامر لا يحتاج الى ما ذكروه بل هو ولله الحمد ظاهر من مفهوم العدد. وايضا ظاهر من مفهوم السياق. فانه جعل هذا التعبير والتفسير توضيحا لرؤيا الملك. ثم اعلم ام ان رؤيا الملك وتعبير يوسف لها وتدبيره ذلك التدبير العجيب من رحمة الله العظيمة على يوسف وعلى الملك وعلى الناس فلولا هذه الرؤيا وهذا التعبير والتدبير لهجمت على الناس السنون المجدبات قبل ان يعدوا لها عدتها. فيقع ضرر كبير على الاقطار المصرية وعلى ما جاورها. فصار ذلك رحمة بهم وبغيرهم من الخلق. الا ترى كيف شمل الجد البلاد المصرية وشمل البلاد الشامية وفلسطين وغيرها. حتى احتاجوا الى الاغتيال من مصر. واحتاج يوسف ان يقدم للجميع ويوزع عليهم توزيعا عادلا. فيه الرفق بالجميع والابقاء عليهم. وكان هذا العلم العظيم من يوسف هو السبب الاعظم في خروجه من السجن وتقريب الملك له من اختصاصه به وتمكينه من الارض يتبوأ منها حيث يشاء وهذا من احسانه. الله لا يضيع اجر المحسنين. ومع هذا الفضل وفضل الله اعظم من ذلك. يصيب برحمته من يشاء ممن يختاره ويختصه ويجمع له خير الدنيا والاخرة. الفصل الثالث ومن فوائد هذه القصة انه عينوا على الانسان ان يعدل بين اولاده. وينبغي له اذا كان يحب احدهم اكثر من غيره ان يخفي ذلك مهما امكنه. والا فضله بما يقتضيه الحب من ايثار بشيء من الاشياء. فانه اقرب الى صلاح الاولاد وبرهم به. واتفاقهم فيما بينهم. ولهذا لما ظهر لاخوة يوسف من محبة يعقوب الشديدة ليوسف وعدم صبره عنه وانشغاله به عنهم سعوا في امر وخين وهو التفريق بينه وبين ابيه. فقالوا ليوسف واخوه احب الى ابينا منا ونحن عصبة ان ابانا ففي ضلال مبين. اقتلوا يوسف او اطرحوه ارضا. يخلو لكم وجه ابيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين. وهذا صريح جدا ان السبب الذي حمله على ما فعلوا بيوسف من التفريق بينه وبين ابيه هو تمييزه بالمحبة. خلاف ما ذكر كثير من المفسرين ان يوسف اخبرهم برؤياه فحسدوه لذلك فانه مناف للاية الكريمة وسوء ظن بيوسف حيث استكتمه ابوه فقال يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا. فيوسف ابر واعقل من ان يخبرهم بها. ولكن كثيرا من اسرائيليات تروج على كثير من الناس. مع ان اقل تأمل في النصوص الشرعية يعلمهم ببطلانها. والمقصود ان الذي حمل اخوة يوسف على ما فعلوه وتمييز يعقوب ليوسف. ومع هذا فلا يحل هذا الامر الشنيع. وهم يعلمون انه لا يحل لهم ولكنهم قالوا افعلوا هذا الجرم العظيم وتوبوا الى الله بعده. فلهذا قالوا وتكونوا من بعده قوما صالحين. وهذا لا يحل ان يواقع العبد الذنب باي حالة يكون. ولو اضمر انه سيتوب منه. فالذنب يجب اجتنابه. فاذا وقع وجبت التوبة منا ولعل من حكمة الله ورحمته بيعقوب ما قدره عليه من الفرقة التي احدثت له من الحزن والمصيبة ما احدثت بمقاماته في الدنيا والاخرة. وليكون للنعمة عند حصول الاجتماع لها الموقع الاكبر والشكر الكثير. والثناء على الله بها وليصل ولده يوسف الى ما وصل اليه من المقامات الجليلة. وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم. وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم. والله يعلم وانتم لا تعلمون. ومن فوائدها الحث على التحرز مما يخشى لقوله يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا. وما فيها من التأكيد عليهم في حفظه حين ارسله معك ثم عند ارسال اخيه بنيامين بعد ذلك اخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك. فالانسان مأمور بالاحتراز فان نفع ذاك والا لم يلم العبد نفسه. ومنها ان من الحزم اذا اراد العبد فعلا من الافعال ان ينظر اليه من جميع نواحيه ويقدر كل احتمال ممكن. وان الاحتراز بسوء الظن لا يضر اذا لم يحقق. بل يحترز من كل احتمال يخشى ضرره ولو تضمن سوء الظن بالغير اذا كانت القرائن تدل عليه وتقتضيه. كما في هذه الاية. وكما قويت القرائن في قوله هل امنكم عليه الا كما امنتكم على اخيه من قبل. فانه سبق لهم في اخيه ما سبق. فلا يلام يعقوب اذا ظن بهم هذا الظن. وان كانوا في الاخ الاخير لم يجر منهم تفريط ولا تعد. ومنها الحذر من الذنوب التي يترتب وعليها ذنوب اخر. ويتسلسل شرها. كما فعل اخوة يوسف بيوسف. فان نفس فعلهم فيه عدة جرائم في حق وفي حق والديه وقرابته. وفي حق يوسف ثم يتسلسل كذبهم كلما جرى ذكر يوسف وقضيته. اخبروا بهذا الكذب الفظيع. ولهذا حين تابوا وخضعوا وطلبوا من ابيهم السماح. قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين. ومنها ان بعض الشر اهون من بعض. فحين اتفقوا على التفريق بين يوسف وابيه. ورأى اكثرهم ان القتل به الابعاد الابدي. قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف. والقوه في غيابة الجب. يلتقطه بعض السيارة كنتم فاعلين فخفف به الشر عنهم. ولهذا لما وردت السيارة الماء وادلى واردهم دلوة تبشر وجوده وقال هذا غلام. وكانت اخوته حوله فقالوا انه غلام ابق منا. وتبايعوه معهم وشروه بثمن من بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. وانما قصدهم ابعاده. والتأكيد على مشتريه منهم صورة ان يحتفظ به لان لا يهرب. ومن لطف الله ان الذي اخذه وباعه في مصر على عزيزها. فحين رآه رغب فيه جدا واحبه. وقال لامرأته اكرمي مثواه عسى ان ينفعنا او نتخذه ولدا. فبقي مكرما عندهم معفا من اعمال الشاقة وغيرها متجردا للخير. وهذا من اللطف بيوسف. ولهذا قال وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث. فكان تفرغه عند العزيز من اسباب تعلمه للعلوم النافعة. ليكون اساس اساسا لما بعده من الرفعة في الدنيا والاخرة. كما ان رؤياه مقدمة اللطف. وكما ان الله اوحى اليه حين القاه اخوته في الجب لتنبئنهم بامرهم هذا وهم لا يشعرون. وهذه بشارة له بالنجاة مما هو فيه. وانه سيصل الى ان ينبئهم بامرهم وهم لا يشعرون. وقد وقع ذلك في قوله هل علمتم ما فعلتم بيوسف واخيه اذ انتم جاهلون الى اخر الايات والطاف المولى لا تخطر على البال. ومنها ان العبرة في حال العبد بكمال النهاية لا بنقص وذلك لان اخوة يوسف جرى منهم ما جرى من هذه الجرائم. لكن في اخر امرهم ونهايته تابوا الى الله وطلبوا السماء من اخيهم يوسف ومن والديهم الاستغفار. فحصل لهم السماح التام والعفو الكامل. فعفا الله عنهم واوصلهم الى انا لله بهم. قيل ان الله جعلهم انبياء. كما قاله غير واحد من المفسرين. في تفسير الاسباط انهم اخوة يوسف الاثنى عشر وقيل بل كانوا قوما صالحين كما قاله اخرون. وهو الظاهر لان المراد بالاسباط قبائل بني اسرائيل وهذا اسم لعموم القبيلة لا لاولاد يعقوب الاثنى عشر منهم. فهم اباء الاسباط وهم من الاسباط. ولهذا في رؤيا يوسف رآهم بمنزلة الكواكب في اشراقها وعلوها. وهذه صفة اهل العلم والايمان. والله اعلم. ولهذا تفسر رؤيا الشمس والقمر والكواكب بالعلماء والصالحين. وقد تفسر بالملوك والمناسبة ظاهرة. ومنها تكميل يوسف صلوات الله عليه لمراتب الصبر. الصبر الاضطراري وهو صبر على اذية اخوته. وما ترتب عليها من بعده عن ابويه وصبره في السجن بضع سنين والصبر الاختياري. هو صبر على مراودة سيدته امرأة العزيز. مع وجود الدواعي القوية من جمالها وعلو منصبها وكونها هي التي راودته عن نفسه وغلقت الابواب. وهو في غاية ريعان الشباب. وليس عنده من قرابته ومعارفه الاصليين احد. ومع هذه الامور ومع قوة الشهوة منعه الايمان الصادق والاخلاص الكامل من مواقعة المحظور وهذا هو المراد بقوله لولا ان رأى برهان ربه فهو برهان الايمان. الذي يغلب جميع القوى النفسية. فكان هو مقدم السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله. وهو رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال اني اخاف الله. ثم بعد ذلك راودته المرأة وراودته. واستعانت بالنسوة اللاتي قطعن ايديهن فلم حدثه نفسه ولم يزل الايمان ملازما في احواله حتى قال بعدما توعدته بقولها ولئن لم يفعل ما امره ليسجنن وليكونن من الصاغرين. قال رب السجن احب الي مما يدعونني اليه. فاختار السجن على مواقعة المحظور ومع ذلك فلم يتكل على نفسه بل استغاث بربه ان يصرف عنه شرهن. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم. وكما انه كمل مراتب الصبر. فقد كمل مراتب العدل والاحسان للرعية حين تولى خزائن البلاد المصرية وكمل مراتب العفو والكرم. حين قال له اخوته تالله لقد اثرك الله علينا وان كنا لخاطئين. قال لا تثريب عليكم اليوم. يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين. فارتقى صلى الله عليه وسلم الى اعلى مقامات الفضل والخير والصدق والكمال. ونشر الله له الثنائين الكاملين في العالمين الفصل الرابع ومنها ان الاخلاص لله تعالى اكبر الاسباب لحصول كل خير واندفاع كل شر. كما قال تعالى وكذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين. وفي القراءة الاخرى المخلصين اي الذين اخلصهم الله بخالصة ذكرى الدار. وهما متلازمتان فاخلصهم لاخلاصهم له. فمن اخلص لله اخلصه وخلصه من الشرور وعصمه من السوء والفحشاء. ومنها ما دلت عليه القصة من العمل بالقرائن القوية من عدة وجوه. منها حين ادعت امرأة العزيز ان يوسف راودها. وقال هي راودتني عن نفسي. فشهد شاهد من اهلها اي حكم حاكم بهذا الحكم واضح وكانت قد شقت قميص يوسف وقت مراودتها اياه. ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين لانه يدل على اقباله عليها. وان المراودة صادرة منه. وان كان قميصه قد من دبر فكثر ثبت وهو من الصادقين. فكان هذا هو الواقع لانها تريده وهو يفر منها ويهرب عنها. فقدت قميصه من خلفه فتبين لهم انها هي المراودة في تلك الحال. وبعد ذلك اعترفت اعترافا تاما حيث قالت الان حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين. ذلك ليعلم اني لم اخنه بالغيب. وان الله لا يهدي كيد الخائنين. ومن العمل بالقرائن وجود الصواع في رحل اخيه. وحكمهم عليه باحكام السرقة لهذه القرينة القوية. ومنها ينبغي للعبد ان يبتعد عن اسباب الفتن. ويهرب منها عند وقوعها. كما فعل يوسف حين راودته امرأة العزيز. واعلم ان كثيرا من المفسرين ذكروا في تفسير البرهان الذي رآه يوسف حين اعتصم عن فاحشة اسرائيليات تنافي العقل والدين. وتنافي ما عليه الرسل من الكمال. حيث قال بعضهم تبدى له في الهواء او تبدى له يعقوب عاضا ابهامه او ما شابه ذلك من الامور التي لو حصلت على افجر الناس لم امتنع من فجوره فكلها باطلة. كذلك من الاقوال الباطلة ما قاله بعضهم في قوله. ولقد همت به وهمت بها اي هم ان يضربها. وهذا تحريف ظاهر. وصاحب هذا القول اراد الفرار من الهم المعروف خشية ان يكون فيه نقص وتنقيص الانبياء محذور في ذلك. فان الهم والهوى ونحوهما اذا قاومه العبد وقدم عليه الخوف والايمان فهو كمال. كما قال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان. وكما ثبت في الصحيح مرفوعة. من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله حسنة كاملة. فانه انما تركها من جرائي. اي تركها لاجل الله خوفا من عقابه ورجاء لثوابه. من اكبر العبادات والله اعلم. ومنها ما عليه يوسف صلوات الله عليه من الجمال الظاهر الذي اخذ بلب امرأة العزيز وشغفها حبا وحين رأته النسوة قطعن ايديهن واكبرن انه وقلن حاشا لله ما هذا بشرا. ان هذا الا ملك كريم. ومن الجمال الباطن وهو العفة والاخلاص الكامل والصيانة. ومنها انه ينبغي للعبد ان يلتجأ الى الله عند خوف الوقوع في فتن المعاصي والذنوب مع الصبر والاجتهاد في البعد عنها. كما فعل يوسف ودعا ربه قال والا تصرف عني كيدهن اصب اليه ان واكن من الجاهلين. وان العبد لا حول ولا قوة ولا عصمة له الا بالله. فالعبد مأمور بفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور مع الاستعانة بالملك الشكور. الفصل الخامس. ومنها فضل الايمان الكامل واليقين والطمأنينة بالله وبذكره. حيث اتصف بها يوسف صلى الله عليه وسلم. اوجبت له الثبات في اموره كلها والاشتغال فيما هو بصدده من وظائفه الحاضرة. وهو في احواله وتنقلاته. مطمئن القلب ثابت النفس ليس عنده قلق لبعده عن ابيه واحبابه. مع ما يعلمه من شدة الشوق والحب المفرط بينه وبين والديه خصوصا اباه. وهو يعلم المكان الذي هو فيه. ويتمكن من مراسلته. ولكن اقتضت حكمة الله الا يحصل اللقاء الا في تلك الحال التي اشتدت مشقتها وعظمت شدتها. فاعانه الله وايده بروح منه. وهذا من تجلي ثمرات الايمان. ومنها انه لا بأس بالاستعانة بالمخلوق في الامور العادية. التي يقدر عليها بفعله او قوله واخباره كما قال يوسف للذي ظن انه ناج منهما اذكرني عند ربك. ومن كمال اخلاص يوسف وكمال خلقه انه لم يعاتب هذا الذي اوصاه ان يذكره عند ربه فنسي. وجاءه يسأله عن رؤيا الملك. فاجابه ولم يعاتبه او يعنفه او يعامله بسوء خلق. وبحسن الخلق تحصل للعبد الحياة الطيبة العاجلة والاجلة. ومنها ان الانسان اذا توجهت له تهمة هو بريء منها لا يلام على طلب الطرق والوسائل التي يحصل بها الوضوح والبيان العام للناس كما فعل يوسف صلى الله عليه وسلم مع طول مكثه لما جاءه الرسول يستدعيه للحضور عند الملك. قال ارجع الى ربك فاسأله بال النسوة اللاتي قطعن ايديهن الى اخر الاية. حيث بان لكل احد برائته التامة التي لا شبهة فيها فلم يخرج من السجن لمواجهة الملك الا في حالة براءته وهيبته ورفعته. وتعظيم منهم لعلمه وفضله ونزاهته عليه الصلاة والسلام. الفصل السادس. ومن ذلك ان يوسف صلى الله عليه وسلم جمع لهم بين تعبير رؤيا الملك وبينما ينبغي لهم ان يفعلوه ويدبروه في سنين الخصب. للاستعداد لسنين الجذب. وحين قال له الملك انك اليوم لدينا مكين امين. اي تتمكن من امور المملكة وتدابيرها مفوض اليه الامور لامانته وكفاءته وكمال الثقة به. فالملك هو الذي ابتدأ توليته وتفويض الامور اليه. وهو الذي اقترح ان يكون على خزائن الارض وجبايتها وتصريفها لاجل عموم المصلحة. ولهذا قال اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ اي احفظ الحاصلات والغلات. واعلم كيف يتم تصريفها وتدبيرها. فحينئذ اعتنى في سنين الخصب بالزروع الهائلة وجباها في مخازنها في سنبلها. واجتهد في الاقتصاد في اكلهم ايام السنين الخصيبة. لتتوفر الغلال ويكون لها النفع العام. فحين جاءت السنون المجدبات. وعم الجدب للاقطار المصرية وما جاورها. وثانيا ما عند الناس جعلوا يقصدون مصر من كل جهة. فجعل يكيل لهم كيل العدل والاقتصاد. بحسب الحاجة لا يزيدكم كل واحد عن حمل البعير خوفا من ان يجتاحه المحتكرون. ويحصل الضرر على المحتاجين المعوزين. ولهذا من جملة ما عالج اخوة يوسف اباهم لارسال بنيامين معهم ان قالوا ونزداد كيل بعير. اي اذا كان معنا حصل لنا زيادة كيل بعير. لان عائلة يعقوب كثيرون يحتاجون الى ميرة كثيرة. فحصل لهذه الاعمال الجليلة على يد يوسف نفع للخلق عظيم. وازالة ضرورات ودفع حاجات. وتهوين للشدات والكربات. ومن مشروعية الضيافة وانها من سنن الرسل. وقررتها هذه الشريعة لقول يوسف الا ترون اني اوفي الكيل وانا خير المنزلين. ومنها ان استعمال الاسباب الواقية من العين او غيرها غير ممنوع. بل جائز ومستحب بحسب حاله. وان كانت جميع الامور بقضاء الله وقدره. لكن الاسباب الواقية او الدافعة من قضاء الله وقدره بشرط ان يفعلها العبد وهو معتمد على مسببها. لان يعقوب عليه السلام حين اراد ان يوصي بنيه لما ارسل بنيامين معهم قال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من ابواب متفرقة. وما اغني من الله من شيء. ان الحكم الا لله. عليه توكلت. واخبر تعالى انه ممتثل امر ابيهم وان هذا الامر لم يغني شيئا الا حاجة في نفس يعقوب قضاها. وهو شفقة الوالد على اولاده. والشريعة جاءت باثبات الاسباب النافعة الدينية والدنيوية. والحث عليها مع الاستعانة بالله. كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال احرص على ما ينفعك واستعن بالله. ومنها جواز استعمال الحيل والمكايد التي يتوصل بها الى حق من الحقوق الواجبة والمستحبة او الجائزة. كما استعمل يوسف ذلك مع اخيه حيث وضع السقاية في يروح لاخيه ثم اذن مؤذن بعد رحيلهم. ايتها العير انكم لسارقون. الى قوله فبدأ باوعيتهم قبل وعاء اخيه ثم استخرجها من وعاء اخيه. كذلك كدنا ليوسف. ما كان ليأخذ اخاه في دين الملك فعمل مع اخيه هذا العمل ليتوصل به الى بقائه عنده من غير شعور منهم. فلما تقرر عندهم انه هو الذي اخذ الصواع استفتاهم عن حكم السارق في دينهم. فقالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاء كذلك نجزي الظالمين. اي جزاء السارق ان يتملكه المسروق منه. فحكموا على انفسهم هذا الحكم الذي هو المقصود ليوسف. ولو اجرى عليه حكم ملك مصر لكان له حكم اخر. فيسر الله هذا العمل وهذا الحكم ليبقى اخوه عنده. فالحيل التي على هذا النوع لا حرج فيها. وانما المحرم الحيل والمكايد التي يتوصل بها الى احلال المحرمات او اسقاط الواجبات. ومنها استعمال المعاريض عند الحاجة اليها. فان في المعاريض ممدوحة عن الكذب. وذلك من وجوه منها قوله ثم استخرجها من وعاء اخيه. ولم يقل سرقها. وكذلك قوله معاذ الله ان نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده. ولم يقل من سرق متاعنا واذا قيل ان هذا اتهام للبريء قيل انما فعل ذلك باذن اخيه ورضاه. واذا رضي زال المحذور. ومن ان الانسان لا يحل له ان يشهد الا بما يعلم. وما شهدنا الا بما علمنا. وان العلم يحصل باقرار الانسان على نفسه وبوجود المسروق ونحوه معه وفي يده او رحله. ومنها ان وجود المسروق بيد السارق بينة وقرينة على انه السارق. ولذلك حكم وحكموا على اخي يوسف بحكم السارق. ومنها هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها نبيه وصفيه. يعقوب عليه السلام. حيث قضى بالفراق بينه وبين يوسف. هذه المدة الطويلة يغلب على الظن انها تبلغ ثلاثين سنة فاكثر. من ذلك انه بقي مدة في بيت العزيز قبل السجن في الامكان. او من سبع سنين الى العشر او نحو ذلك على وجه الخرس والحذر. ثم مكث بضع سنين في السجن. والاكثر انها سبع سنين ثم بعد خروجه دخلت السبع السنين المخصبات فهذه نحو احدى وعشرين سنة. ثم دخلت السبع المجدبات وتردد اخوة يوسف اليه مرات والظاهر ان اللقاء كان في اخرها. فهذه تقارب الثلاثين وهو في هذه المدة لم يفارق الحزن قلبه. وهو دائم البكاء. حتى ابيضت عيناه من الحزن وفقد بصره وهو صابر لامر الله محتسب الثواب عند الله. قد وعد من نفسه الصبر. ولا شك انه وفى بذلك ولا ينافي ذلك قوله انما اشكو بثي وحزني الى الله. فان الشكوى الى الله لا تنافي الصبر وانما ينافي الصبر الشكوى الى المخلوق. ومنها ان الفرج مع الكرب. فانه لما اشتد الكرب بيعقوب وقال يا على يوسف قال يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف واخيه. ولا تيأسوا من روح الله انه لا لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون. وهم حين دخلوا على يوسف وقفوا بين يديه موقف المضطر فقالوا يا ايها العزيز مسنا واهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة. اي قليلة حقيرة. لا تقع الموقع اوف لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزي المتصدقين. فحينئذ لما بلغ الضر منتهاه من كل وجه عرفهم بنفسه. فحصل بذلك البشارة الكبرى لابويه واخوته واهلهم. وزال عنهم الضر والبأساء وخلفه السرور الفرح والرخاء. ومنها ان الله يبتلي انبيائه واصفيائه بالشدة والرخاء والسرور والحزن. واليسر والعسر بيستخرج منهم عبوديته في الحالين. بالشكر عند الرخاء والصبر عند الشدة والبلاء. فتتم عليهم بذلك كما ابتلى يعقوب ويوسف. وكذلك غيرهم من انبيائه واصفيائه. ومنها جواز اخبار الانسان بما يجد وما هو فيه فيه من مرض او فقر او غيرهما على غير وجه التسخط. لقول اخوة يوسف مسنا واهلنا الضر واقرهم يوسف يوسف على ذلك ومنها فضيلة التقوى والصبر. وان كل خير في الدنيا والاخرة فمن اثارهما. وان عاقبة اهلهما احسن العواقب. لقوله قد من الله علينا انه من يتق ويصبر فان الله الا يضيع اجر المحسنين. وان اخبار العبد من نفسه بحصول التقوى والصبر اذا كان صدقا وفي ذلك مصلحة من باب التحدث بنعمة الله. قال الله تعالى واما بنعمة ربك فحدث. وهي تشمل نعم الدنيا ونعم الدين وان الله يجمع للمتقين بين خير الدنيا والاخرة. كما في هذه الاية والاية السابقة. وهي قوله برحمتنا من نشاء. ولا نضيع اجر المحسنين. ولاجر الاخرة خير للذين امنوا وكانوا يتقون. وانه ينبغي للعبد ان يتذكر في حال الرخاء والسرور. حالة الحزن والشدة ازداد شكره وثناؤه على الله. ولهذا قال يوسف وقد احسن بي اذ اخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ومنها انه ينبغي للعبد ان يتضرع الى الله دائما في تثبيت ايمانه. ويعمل الاسباب لذلك. ويسأل الله حسن الخاتمة وتمام النعمة. ويتوسل بنعمه الحاصلة الى ربه ان يتمها عليه ويحسن له العاقبة. كما قال يوسف صلى الله عليه وسلم رب قد اتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث. فاطر السماوات والارض انت وليي في الدنيا والاخرة. توفني مسلما والحقني بالصالحين. وليس شهادة من يوسف تمنيا للموت كما ظنه بعضهم. بل هو دعاء لله ان يحسن خاتمته. ويتوفاه على الاسلام يسأل العبد ربه ذلك في كل وقت. ومنها ما من الله به على يوسف من حسن عفوه عن اخوته. وانه عفا عما مضى ووعد في المستقبل الا يثرب عليهم ولا يذكر منه شيئا. لانه يجرحهم ويحزنهم. وقد ابدوا الندامة التامة ولاجل هذا قال من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي. ولم يقل من بعد نزغهم بل الفعل الى الشيطان الذي فرق بينه وبين اخوته. وهذا من كمال الفتوة وتمام المروءة. ومنها ما في هذه القصة العظيمة من البراهين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. حيث قصها على الوجه المطابق. وهو لم يقرأ من الكتب السابقة شيئا. ولا جالس من له معرفة بها. ولا تعلم من احد ان هو الا وحي اوحاه الله اليه ولهذا قال تلك من انباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها انت ولا قومك كمن قبل هذا كما ذكر الله هذا المعنى في قصة موسى وغيره من الانبياء. لان الغيوب نوعان امور سابقة قد اندرس علمها نبأه الله بها وامور مستقبلة قد نبأه الله بها قبل ان تقع فوقعت تزال تقع شيئا بعد شيء مطابقة لما اخبر به صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وفي سنة رسوله. وكلها ابراهيم على رسالته. الفصل السابع. وفي قوله تعالى ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم دليل على ان هذا وصف النفس. من حيث هي وانها لا تخرج عن هذا الوصف الا برحمة من الله وعناية منه لان النفس ظالمة جاهلة والظلم والجهل لا يأتي منهما الا كل شر. فان رحم الله العبد ومن عليه بالعلم النافع وسلوك طريق العدل في اخلاقه واعماله خرجت نفسه من هذا الوصف. وصارت مطمئنة الى طاعة الله وذكره ولم تأمر صاحبها الا بالخير. ويكون مآلها الى فضل الله وثوابه. قال تعالى يا ايتها النفس المطمئنة. ارجعي الى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي وادخلي جنتي. فعلى على العبد ان يسعى في اصلاح نفسه واخراجها من هذا الوصف المذموم. وهو انها امارة بالسوء. وذلك بالاجتهاد وتخلقها باحسن الاخلاق. وسؤال الله على الدوام. وان يكثر من الدعاء المأثور. اللهم اهدني لاحسن الاعمال والاخلاق سيهدي لاحسنها الا انت. واصرف عني سيء الاعمال والاخلاق. لا يصرف عني سيئها الا انت. وفي ضعيف القصة فضيلة العلم من وجوه كثيرة. وبيان انه سبب الرفعة في الدنيا والاخرة. وسبب صلاح الدين والدنيا يوسف صلى الله عليه وسلم لم ينل ما نال الا بالعلم. ولهذا قال له ابوه وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث. وامتن عليه وقت مكثه عند عزيز مصر. بالتجربة والعلم. وحاز مقام الاحسان بالعلم خرج من السجن في حال العز والكرامة بالعلم. وتمكن عند ملك مصر واستخلصه لنفسه حين كلمه وعرف ما عنده من العلم ودبر احوال الخلق من المماليك المصرية باصلاح دنياهم وحسن تدبيره في حفظ خزائن الارض وتصريفها وتوزيعها بالعلم. وعند نهاية امره توسل الى ربه ان يتولاه في الدنيا بالعلم. حيث قال ربي قد اتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث. فاطر السماوات والارض انت وليي في الدنيا والاخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين. ففضائل العلم وثمراته الجليلة العاجلة والاجلة لا تعد ولا تحصى. وفيها ان شفاء الامراض كما تكون بالادوية الحسية تكون باسباب ربانية. بل يحصل في هذا النوع من انواع الشفاء ما لا يحصل بغيره. فيعقوب عليه السلام قد ابيضت عيناه من الحزن وذهب بصره وجعل الله شفاءه وابصاره. بقميص يوسف حين القاه على وجهه فارتد بصيرا. مما كان فيه من رائحة يوسف الذي كان داء عينيه من حزنه عليه فصار شفاؤه الوحيد مع لطف الله في قميص جسده. ومن قال ان من الجنة فليس عنده بذلك دليل. والله قادر على ان يشفيه من دون سبب. ولكنه حكيم جعل الامور تجري باسباب ونظامات قد تهتدي العقول الى معرفتها وقد لا تهتدي. ونظير ذلك ايوب صلى الله عليه وسلم وصل به المرض والضر الى حالة تعذر منها الشفاء واعيت الاطباء. فحيث اراد الله شفاءه امره ان يركض برجله ارض فانبع له عينا باردة. وامره ان يشرب منها ويغتسل. فاذهب الله ما في باطنه وظاهره من هذا الضرر وعادك احسن ما وعادك احسن ما انت راء. قال تعالى اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فهو تعالى يشفي العباد بادوية. فهو تعالى يشفي العباد بادوية واسباب حسية وباسباب ربانية نية معنوية. قال سبحانه وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو. كما انه تعالى يوجد الاشياء جاء باسباب حسية معلومة. وباسباب ربانية لا تهتدي العقول اليها. كما في معجزات الانبياء وكرامات الاولياء واياته النفسية والكونية وهو المحمود على هذا وعلى هذا. ومنها جواز سؤال الخلق خصوصا الملوك عند في قول اخوة يوسف يا ايها العزيز مسنا واهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فاوف لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزي المتصدقين. فانهم سألوا المحاباة في المعاملة والصدقة بدون عوض. وانما قلت خصوصا الملوك لانهم لا يسألون من اموالهم الخاصة. وانما يسألون من بيت المال. الذي هو للمصالح العمومية. واهم المصالح دفع ضرورة المضطرين. ومن فوائد القصة ان الجهل كما يطلق على عدم العلم فانه يطلق على عدم الحلم على ارتكاب الذنب لقوله تعالى والا تصرف عني كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين واما قوله هل علمتم ما فعلتم بيوسف واخيه اذ انتم جاهلون. ليس المعنى في ذلك عدم العلم ما هو عدم العلم به واقتحام الذنوب؟ ومنه قول موسى صلى الله عليه وسلم اعوذ بالله ان اكون من الجاهلين وقوله انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب. وكل من عصى الله فهو جاهل باعتبار عدم العمل بالعلم. لان العلم الحقيقي ما زال به الجهل واوجب العمل. ومنها قوله تعالى ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم. ولمن جاء به حمل بعير انا به زعيم استدل به على ثلاثة ابواب من ابواب العلم. باب الجعالة وباب الضمان وباب الكفالة لان قوله ولمن جاء به حمل بعير من نوع الجعالة وهو ان يجعل شيئا معلوما او مقاربا للمعلوم كحمله البعير لانه متعارف لمن يعمل له عملا معلوما وعملا مجهولا وهي جائزة لما فيها من مصلحة الجاهل والعامل وقوله وانا به زعيم اي ضامن وكفيل. وهي من عقود التوثقة بالحقوق التي يتم بها توسيع المعاملة واصلاحها. ومنها ان العمل بالشريعة فيه اصلاح الارض والبلاد واستقامة الامور. والعمل بالمعاصي من سرقة وغيرها فيه فساد. ذلك لقولهم تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين كم في القرآن من التصريح ان العمل بالمعاصي ومخالفة الرسل فساد للارض. ومتابعة الرسل هو الصلاح المطلق صلاح الدين والدنيا. ومنها الدلالة على الاصل الكبير الذي اعاده الله وابداه في كتابه. ان لكل نفس ما كسبت من الخير والثواب. وعليها ما اكتسبت من الشر والعقاب. وانه لا تزر وازرة وزر اخرى. لقوله معاذ الله ان نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده. انا اذا لظالمون. ومنها الحث على فعل الاسباب الجالبة للخيرات والحافظة من الكريهات. وفي القصة مواضع تدل على هذا الاصل الكبير. وتمام ذلك ان يقوم اسبابي مستعينا بالله واثقا به. وقد عمل يعقوب عليه السلام الاسباب التي يقدر عليها. وقد عمل يعقوب عليه السلام الاسباب التي يقدر عليها في استحفاظ اولاده ليوسف ثم لاخيه حين ارسله معهم وقال مع ذلك الله خير حافظا وهو ارحم الراحمين. وكذلك على العبد اذا همته المصائب وحلت به النكبات عليه ان ويستعين بالله على ذلك. قال يعقوب صلى الله عليه وسلم حين عمل اخوة يوسف ما عملوا بيوسف وحلت به المصيبة الكبرى والله المستعان على ما تصفون. وذلك ان الصبر على الطاعات والصبر عن المحرمات والصبر على المصيبات لا يتم وينجح صاحبه الا بالاستعانة بالله. والا يتكل العبد على نفسه. قال يوسف والا تصرف عني كيدهن اصب اليهن. واكن من الجاهلين. الفصل الثامن. ومن فوائد القصة الارشاد الى طريق نافع من طريق الجدال والمقابلة بين الحق والباطل. وهو بيان ما في الحق من الخير والمنافع العاجلة والاجلة وما في الباطل من ضد ذلك. قال تعالى في دعوة يوسف للتوحيد يا صاحبي السجن اارباب متفرقة خير ام الله الواحد القهار؟ فذكر ما في الشرك من القبح وسوء الحال. واتباع الظنون الباطلة. وان كل لطائفة من المشركين لهم معبود. اما نار او صنم او قبر او ملك او ميت او غير ذلك من المعبود المتفرقة التي لا تملك لنفسها ولا لاهلها نفعا ولا ضرا. ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وكل طائفة تضلل الاخرى وكلهم ضالون هالكون فيها. هذه الارباب والمعبودات خير ام الله الواحد القهار فذكر له ثلاثة اوصاف عامة عظيمة. انه الله الذي له الاسماء والصفات العليا. ومنه النعم كلها وبذلك استحق ان يكون الله المألوه اله اهل الارض واهل السماء. وهو الذي في السماء اله وفي الارض اله وانه الواحد المتفرد بكل صفة كمال. المتوحد بنعوت الجلال والجمال. الذي لا شريك له في شيء من الافعال وانه القهار لكل شيء. فجميع العالم العلوي والسفلي كلهم مقهورون بقدرته. خاضعون لعظمته متذللون لعزته وجبروته. فمن هذه صفاته العظيمة والذي لا تنبغي العبادة الاله وحده لا شريك له. ومنها ان الدين المستقيم الذي عليه جميع الرسل واتباعهم هو عبادة الله وحده لا شريك له. بقوله ان الحكم الا لله امر الا تعبدوا الا اياه. ذلك الدين القيم. فهو الدين المستقيم المقيم للعقائد والاخلاق والاعمال. الذي لا تستقيم امور الدين والدنيا الا بها. ومنها وجوب الاعتراف بنعم الله الدينية والدنيوية لقوله ذلك من فضل الله علينا. فهو الذي من بالعافية والرزق وتوابع ذلك. وهو الذي من نعمة الاسلام والايمان والطاعة وتوابع ذلك. فعلى العبد ان يعترف بها قلبه. ويتحدث بها ويستعين بها على وطاعة المنعم. ومنها ان الاحسان في عبادة الله والاحسان الى العباد سبب ينال به العلم. وتنال به خيرات والاخرة. لقوله ولما بلغ اشده اتيناه حكما وعلما. وكذلك نجزي المحسنين وقوله نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر المحسنين. ولاجر الاخرة خير قل للذين امنوا وكانوا يتقون. فجعل الله الاحسان سببا لنيل هذه المراتب العالية. ومنها ان النظر الى الغايات المحبوبة يهون المشاق المعترضة في وسائلها. فمتى علم العبد عاقبة الامر وما يؤول اليه من خير الدنيا والاخرة الاخرة هانت عليه المشقة وتسلى بالغاية. لقوله تعالى واوحينا اليه لتنبئنهم بامرهم هذا وهم لا يشعرون. فاوحى الى يوسف في هذه الحال المزعجة ان الامر سيكون في خير وسعة. وبعد هذه اهانة الصادرة من اخوتك لك ستكون لك الاثرة عليهم والعاقبة الحميدة. وفي هذا من اللطف والتسلية وتخفيف البلاء ما هو من اعظم نعم الله على العبد. ولهذا المعنى الجليل يذكر الله عباده عند المشاق والامور المزعجة. ما يترتب على ذلك من الثواب والخير والطمع في فضله. قال تعالى ان تكونوا تألمون فانهم يألمونك تألمون وترجون من الله ما لا يرجون. وقوله تعالى واجمعوا ان يجعلوه في غيابة الجب دليل على رجوعهم كلهم الى رأي من قال لا تقتلوا يوسف والقوه في غيابة الجب. كما ان له والا تصرف عني كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن دليل على ان النسوة ساعدن امرأة العزيز على يوسف. وجعلنا يغرينه بهذا العمل. فبعدما رأينا من جمال يوسف باهر ما رأين اصبحنا لامرأة العزيز مساعدات بعد ان كن قبل ذلك عاتبات عليها بقولهن امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا. انا لنراها في ضلال مبين. ومنها ان العقود تنعقد مما يدل عليها من قول وفعل. لا فرق بين عقود التبرعات وعقود المعاوضات. لان يوسف صلى الله عليه وسلم من لك اخوته بضاعتهم التي اشتروا بها ميرتهم من حيث لا يشعرون. ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت اليهم الاية. وذلك من دون ايجاب وقبول قولي. لان الفعل والرضا يدل على ذلك الفصل التاسع. اذا قيل كيف خفي موضع يوسف على يعقوب وما بينه الا مسافة قليلة مع طول المدة وقوة الداعي الملح. وعلمه انه على الوجود وحرصه الشديد على لقياه. فالجواب ليس ذلك بغريب على قدرة الله. فان الاسباب وان قويت جدا لا خروج لها عن قضاء الله وقدره. فان الله تعالى اراد الا يحصل اجتماع الا في الوقت الذي اجله. والحالة التي ارادها لما له في ذلك من الحكم العظيمة. ومتى اراد الله شيئا في وقت مخصوص قدر من الاسباب الحسية او المعنوية ما يمنع حصوله قبل ميقاته. كما يقدم من الاسباب ما يحصل به ما اراد. فالاسباب بيد العزيز الحكيم. وليس هذا باغرب من قضية بني اسرائيل في التيه وهم امة عظيمة. والتيه مسافة قصيرة وهم بين اظهري قرى ومدن كثيرة. والمدة اربعون سنة لم ابتدوا طريقا الى مقصدهم. ولم يتيسر لهم من يرشدهم الى قصدهم. وكذلك اصحاب الكهف مكثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين. هم في غار قريب من مدينة عظيمة. لم يصل اليهم احد في هذه المدة الطويلة. لان يريده الله. فهذه الامور وما اشبهها دليل على كمال قدرة الله وحكمته. مع ان يوسف صلى الله عليه وسلم بقي مدة الله اعلم بها وهو في بيت العزيز. ثم مدة وهو في السجن ثم ترقى الى تدبير الملك ولم يخطر ببال احد ان ينتقل من الرق والسجن الى الملك العظيم. ثم انه وقت توليته يغلب على الظن انه اشتهر عند الناس باسم المنصب والوزير للملك. ولا يكاد احد يعرف اسمه كما هو الغالب على الملوك واشباههم. ولهذا ردد اخوته عليه فعرفهم وهم لا يعرفونه لما هو فيه من بهجة الولاية. وايضا قد فارقوه وهو صغير ولم الا بعدما كبر. ومعلوم ان اوصاف الانسان تتغير اذا وصل الى سن الكهولة. والله اعلم. هذا من جهة يعقوب واولاده. اما من جهة يوسف فانه قد علم وقصد التأخير ليبلغ الكتاب اجله. ولهذا تردد عليه وقد عرفهم ولم يعرفهم بنفسه ولم يستدعي ابويه واهله الا في نهاية الامر. الفصل العاشر قوله تعالى عن يعقوب في اول ما صنع ابناؤه باخيهم يوسف بل سولت لكم انفسكم امرا. فصبر والله المستعان على ما تصفون. وقوله عندما اشتد به الامر حين احتبس الابن الاخر بل سوى قالت لكم انفسكم امرا. فصبر جميل. عسى الله ان يأتيني بهم جميعا. انه هو العليم الحكيم. وفي هذا دليل على ان اصفياء الله اذا نزلت بهم الكوارث والمصيبات. قابلوها في اول امر بالصبر والاستعانة بالمولى. وعندما ينتهي وتبلغ الشدة منتهاها. يقابلونها بالصبر والطمع في الفرج والرجاء فيوفقهم الله للقيام بعبوديته في الحالتين. ثم اذا كشف عنهم البلاء قابلوا ذلك بالشكر والثناء على الله وزيادة المعرفة بلطفه. لقول يوسف يا ابتي هذا تأويل رؤياي من قبل. قد جعلها ربي حقا. وقد احسن اذ اخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي ان ربي لطيف لما يشاء. انه هو العليم الحكيم. ومنها قوله تعالى معاذ والله ان نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده انا اذا لظالمون. يدل على انه لا تزر وازر وزر اخرى. ويؤخذ منه مسألة دقيقة. وهو ان الاحسان انما يكون احسانا. اذا لم يتضمن فعل محرم او ترك واجب فانهم طلبوا من يوسف ان يحسن اليهم بترك هذا الاخ ان يذهب الى ابيه ويأخذ احدهم بدله فامتنع وقال معاذ الله ان نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده انا اذا لظالمون. فالاحسان اذا تضمن ترك كالعدل كان ظلما. ولهذا كان تخصيص بعض الاولاد على بعض. وبعض الزوجات على بعض. وان كان احسانا الى المخصص ايها المفضل لا يجوز لانه ترك للعدل. وكذلك ما اشبه ذلك والله اعلم. ومنها ان ايات الله انما ينتفع بها السائل المستهدي الذي قصده معرفة الحق واتباعه. لقوله لقد كان في يوسف واخوته ايات للسائلين. اما الغافلون المعرضون او المعارضون المعاندون. فانه يصدق عليهم قوله تعالى ان الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون. ولو جاءتهم كل اية حتى يروا العذاب الاليم. فالنظر في ايات الله المتلوة وايات الله الكونية ينفع من قصده الحق. كما قال تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام. وكم في القرآن تقييد الانتفاع بهذا القيد كقوله ان في ذلك لاية للمؤمنين. وايضا ايات للموقنين. وقوله لايات لاولي الالباب وقوله لاولي الابصار. ومنها ان المشاورة نافعة في كل شيء. حتى في تخفيف الشر. لهذا تشاور يوسف فيما يعملون به من قتل او طرح في الارض. قرر رأيهم على رأي من اشار عليهم بالقائه في الجب ليلتقطه بعض السيارة. ففيه شاهد للقاعدة المشهورة ارتكاب اخف المفسدتين اولى من اغلظهما ولما قر القرار على اخذ من وجد الصواع في رحله. ولما قر القرار على اخذ من وجد السواع في رحله. وعالجوا يوسف على اخذ بدله لاجل ما يعلمون من مشقة ابيهم فامتنع خلصوا نجيا يتشاورون. فقرر رأيهم على رأي كبيرهم ان يبقى هو في مصر يلاحظ مسألة اخيه وهم يذهبون ويخبرون اهلهم ويخبرون اباهم بالقضية وتفصيلها ولا شك ان بقائه في مصر اهون على يعقوب وارجى لتحصيل المطلوب. وفيه نوع مواساة منه باخويه وبنيامين. ولهذا قال عسى الله ان يأتيني بهم جميعا. انه هو العليم الحكيم. الفصل الحادي عشر انما لم يصدق يعقوب بنيه حين قالوا اكله الذئب. وعملوا تلك القرائن المبررة لقولهم لان معلومة لا يعارضه الشك والوهم. فانه قد علم برؤيا يوسف ربما بغيرها ما يؤول اليه حال يوسف. من تمام النعمة التي تشمله وتشمل ال يعقوب. وفيها ايضا انه لا ينبغي ان يغتر بمجرد سورة القرائن. ولما اتت الى الى شريح امرأة مع خصمها ارسلت عينيها بالبكاء. قال لشريح بعض الحاضرين ما اظن البائسة الا فقال شريح الم تسمع قصة اخوة يوسف؟ اذ اتوا اباهم عشاء يبكون. هل كانوا مظلومين او الظالمين. فكم حصل بمثل هذه التمويهات؟ من الاغترار وقلب الحقائق. لهذا كان الاذكياء يجعلون كل احتمال على بالهم وينظرون الى الامور من جميع جهاتها ونواحيها. وتدل القصة على ان الولايات الكبار والصغار لابد لمتوليها ان يكون كفئا في قوته وامانته وعلمه بامور الولاية. لان المالك لما كلم يوسف ورأى من علمه وخبرته بالامور وحسن نظره استخلصه لنفسه. وقال انك اليوم لدينا مكين امين. وقال يوسف اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ عليم. فعلل ذلك بكمال حفظه لما تحت يده وتصرفه وكمال علمه بوجود المستخرج والمنصرف وحسن التدبير. وليس في هذا طلب الولاية ابتداء. كما قاله كثير من اهل العلم بل انه لما رأى الملك استخلصه ومكنه من الامور وان الامور كلها تحت طوعه وتدبيره طلب من الملك لتولي خزائن الارض فقط لانها اهم. ولانه يعلم ان ولايته لها انفع للملك وللخلق. وهذا من كمال لنصحه وصدق نظره. الفصل الثاني عشر. لما قص الله تعالى علينا القصة العجيبة بتفاصيلها. قال في اخرها ما كان حديثا يفترى. ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة قومي يؤمنون. فنفى عن هذا القرآن الكذب والخطأ من جميع الوجوه. ووصفه بثلاث صفات. كل واحد منها فيها اكبر برهان على انه من عند الله. وانه الحق الذي لا ريب فيه. الصفة الاولى انه تصديق الذي بين يديه اي من الكتب المنزلة من السماء. ومن كلام الرسل المعصومين الذين اوحى الله اليهم. كما قال عال بل جاء بالحق وصدق المرسلين. فهذا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالحق وهو الصدق في اخباره عن الله. وعن ملائكته وعن اليوم الاخر. وعن جميع الغيوب السابقة واللاحقة في احكامه فلا يأمر الا بخير ولا ينهى الا عن الشر. كما قال تعالى وتمت كلمة ربك صدقا عدل صدقا في اخبارها. عدلا في احكامها واوامرها ونواهيها. وايضا فان هذا القرآن صدق جميعا ما جاءت به الرسل وهيمن عليها واتفق منها على الاصول العظيمة والشرائع الكبار العامة الشاملة. وايضا فان اخبروا وبشروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. فصدق مخبرها وحقت بشارتها. الصفة الثانية انه تفصيل لكل شيء. وهذا شامل لجميع ما يحتاجه الخلق. في عقائدهم اخلاقهم واعمالهم الظاهرة والباطنة. وفي دينهم ودنياهم. فقد شرح الله به وفصل التوحيد والرسالة والجزاء وجميع العقائد الصادقة الصحيحة شرحا وتفصيلا عظيما. لا يساويه في ذلك اي كتاب كان. وفصل فيه الحث على حقائق الايمان. وعلى التخلق بالاخلاق الجميلة والتنزه عن الاخلاق الرذيلة. وبين الطرق والاسباب التي يحصل حسنها والتي يدفع به سيئها. كما فصل الشرائع الظاهرة والاعمال الصالحة والحرام والحلال والخير والشر وفصل فيه جميع المقاصد والغايات النافعة الدينية والدنيوية. وفصل ما يتوصل به اليها. وفصل فيه البراهين العقلية كما فصل فيه البراهين السمعية. الصفة الثالثة انه هدى ورحمة لقوم يؤمنون. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام. ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم. اي لكل حالة قويمة طريقة مستقيمة. يهدي لاحسن الاعمال والاخلاق. ويهدي لمصالح الدين كلها. ومنافع الدنيا التي بها يقوم دين وتتم السعادة. والفرق بين الهدى والرحمة ان الهدى هو الوسائل والطرق الموصلة الى خيرات الدنيا والاخرة. والرحمة هي نفس الخيرات. والثواب العاجل والاجل. فسعادة الدنيا والاخرة متوقفة على اتباع هذا القرآن علما وعملا وخص الله المؤمنين بالهدى والرحمة لانهم هم المنتفعون على الحقيقة. وبايمانهم اهتدوا وزادهم الله هدى ورحمة فهذا القرآن بصائر للناس كلهم. بصرهم جميع ما يحتاجون اليه. فلم يبق خير الا دلهم عليه. ولا شر الا حذرهم منه. فقامت به الحجة على كل احد ولكنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون. اللهم تفضل علينا بالايمان الصادق. واجعل هذا القرآن لنا هدى ورحمة. انك انت القريب المجيب. وصلى الله على محمد وسلم قال ذلك وكتبه العبد الفقير الى الله عبدالرحمن بن ناصر بن سعدي غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين امين وافق الفراغ منه في سفر سنة خمس وسبعين وثلاثمائة والف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم