الحمد لله الذي علمنا الاسلام وعلمنا الحكمة والقرآن. واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والاكرام واشهد ان سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله صفوة الانام. اللهم صلي وسلم وبارك عليه. وعلى ال بيته وصحبه الائمة الاعلام ومن تبعهم باحسان واقتفى اثرهم الى يوم الدين اما بعد. فهذا هو مجلسنا الثالث الذي نتحدث به عن مقدمات ممهدات لما نحن بصدده من الشروع بعون الله تعالى الكريم في درس نتدارس فيه مباحث ومسائل وابواب وفصول علم اصول الفقه. تقدم في المجلسين السابقين شيء من التمهيد الذي يتضح به مداخل هامة واسس عامة لطالب علم الاصول. فيما يتعلق بالنشأة وبطبيعة هذا العلم وباهميته بحاجة طالب العلم جملة اليه والمتفقه خصوصا اليه. درس المجلس المنصرم كان حديثا عن وجود هذا العلم وتمثله في تعامل الصحابة رضي الله عنهم زمن الوحي والتشريع. واستعرضنا جملة من الامثلة التي كان فيها تطبيقات عملية لشيء لفهم الصحابة للنصوص رضي الله عنهم وارضاهم. وقلنا ان اجل ما في هذه الامثلة التي مرت وغيرها فكثير مبثوث في ثنايا الكتب التي جمعت حديث السنن واثار الصحابة رضي الله عنهم اجل ما في ذلك التدليل على ان فهذا العلم علم قائم وكان متواجدا حاضرا في حياة الصحابة رضي الله عنهم والوحي ينزل تشريع مستمر وفي هذا دلالة على انهم رضوان الله تعالى عليهم ما كانوا زمن الوحي عالة يتكففون الاحكام الشرعية ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر وهو مغنيهم عن كل نازلة تنزل بهم وعن كل حكم يحتاجون الى تعرف وجهته لكنهم مع ذلك كانوا يتأتون لدراية الاحكام من خلال النصوص واستنباطها وفهم اوجه الدلالات فيها. ولا يبقى القوم عرب والقرآن عربي والنبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم بلسانهم. والقوم كانوا في ابلغ درجات الفصاحة والبيان غاية باللسان العربي ومن اجل ما في تلك الشواهد ايضا ما كان فيها من حكاية لمثل هذه الافهام وعرضها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة فيصوب منها ما يصوب ويقر منها ما يقر وينبه على ما ينبه عليه منها صلى الله عليه وسلم و اعلى من ذلك واجل ان يكون التطبيق شيئا من الامور العملية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم اياها كما مر في حديث ابل الاعرابي لما سأله عن امرأة له وجدت غلاما اسودا فادار له الحديث نبينا صلى الله عليه وسلم بشيء من فهم من يقيس به شيئا على شيء وقاس له حال النساء وحال الانسان عموما في التأثر بصفات الاباء والاجداد وظهور ذلك فيما بعد مما ليس في الابوين عليه صفة ظاهرة قاسه عليه الصلاة والسلام على شأن ما يراه الانسان ويعيشه من حياة البهائم الى ان اوصله عليه الصلاة والسلام الى قياس هذا على ذاك لما قال الاعرابي لعله نزعوه عرق فقال وهذا لعله نزعه عرق. كان الغرض ذلك الوقوف على حقيقة مهمة تقول ان علما كاصول الفقه بتفرع ابوابه وكثرة مسائله وعمق ما اخذه ليس علما انشأه اجيال السلف فمن بعدهم ليكون مبتور الصلة او ليطوال انه شيئا ليس لم يكن مأثورا سيعزف عنه طلبة العلم او يزهدون في تحصيله. بلى هو علم قائم يحصله الصحابة رضي الله عنهم ملكة ومع ذلك كانوا يجدون من التقريرات النبوية وشيئا من التدريبات العملية بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان ينمي فيهم هذه الملكة والشواهد التي مرت في الدرس السابق كانت دليلا على مثل هذا الاتجاه. يقال هذا للوقوف على هذه حقيقة فعلم الاصول شأنه شأن سائر العلوم الشرعية التي كانت موجودة في صدور الناس انذاك. كانوا يجدونها شيئا بالملكة وشيئا بالتعامل وشيئا بمعايشة الوحي ومعاصرة التنزيل ومصاحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحصل له من العلوم من ذلك شيء كثير يتكون بعضه الى بعض فتكون لديهم من العلم ما ليس عند غيرهم رضوان الله عليهم اجمعين القول في علم اصول الفقه هو علم متراكم ومسائل مبنية على شطرين كبيرين احدهما الادلة والثاني الدلالات. والدلالات تعني النص فهم اللفظ معرفة المراد به دلالته في لغة العرب تأثير السياق فيه. السباق واللحاق اثر اللفظ في الجملة واثر الجملة في السياق اثر الكل والادلة بعضها على بعض كل ذلك منظومة واحدة تشكل عند الفقيه او المجتهد او الناظر في الادلة قاعدة ان يصلوا من خلالها الى الحكم بالنظر الى الدليل الشرعي. هذا العلم الكبير الذي اصبح احد بوابات العلم الشرعي علم اصول الفقه علم قائم كنا نتتبع في درسنا الماضي نشأة هذا العلم وانتهينا الى انه كان موجودا في صدور الصحابة وفي عقولهم وفي افهامهم وفي تعاملهم مع النصوص ودللنا بالامثلة كيف كانوا يطبقون بعض القواعد التي اصطلح عليها الاصوليون فيما بعد ببعض المصطلحات قصيدة العموم والتخصيص وتعارض الادلة والمخرج من ذلك الاشكال. كل ذلك مر ذكره في الدرس السابق. نتابع الليلة مسيرة تتابع هذا العلم وانتقاله عبر الاجيال لنقول كيف ظهر كتبا مدونة وكيف اضحى مؤلفات الا وكيف صار علما يطلب ومناهج تتبع وقواعد تذكر ومناهج ايضا يسير عليها الناس في التأليف وفي التدريس وفي الاستنباط لما تقرر عندنا ان الصحابة رضي الله عنهم قد حصلوا من قواعد هذا العلم وجليل مداركه شيئا كثيرا كما قلت بالسليقة في بعض الاحيان وبالتعامل مع النصوص ومعايشة الوحي في بعض الاحيان وبالتعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم وفهم كثير من الاحكام من خلال السؤال والجواب والاستنباط تكون من مجموع كل تلك الطرق تأصيل هذا العلم في صدور رضي الله عنهم واية ذلك انه ماء ماتا. رسولنا صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي الا وكنت تخيلوا اليك ان الامة ستصبح امام مأزق كبير. ان الوحي انقطع وان التشريع انتهى فلا كتاب ولا سنة لا قرآن لا اية تنزل ولا حديث نبوي سيدلهم على بعض الاحكام. كنت تتصور انهم يقعون في مأزق كبير وان الامة توشك ان تنهار من اول يوم مات فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم. لكن التربية النبوية التي رباهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم. ومكن لهم من اصول الاستنباط وقواعد الفهم والنظر في الادلة اثبتت انهم مؤهلون تماما. لقيادة الامة بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم ولابقائها على مسار الشريعة. ولاهتداءها بهدى الله المنزل. وبالتنقيب في كتاب الله وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام لاستخراج ما تحتاج اليه الامة في كل وقت وفي كل حادثة. ومرت الحوادث تباعا فاثبت الصحابة رضي الله عنهم كفاءة عالية وفهما دقيقا ونظرا ثاقبا. مثلت في نهاية الدرس المنصرم بقصة عبد ابن مسعود رضي الله عنه لما سئل عن المرأة التي عقد عليها زوجها المفوضة التي عقد عليها زوجها ومات ولم يدخل بها فاجتهد رضي الله عنه ثم افتى بما رآه بمحض اجتهاده والنظر. ولما اقول بمحض اجتهاده ليس هوى النفس. ولا الرأي المجرد لكنه الرأي الذي تربى وتشرب من قواعد الشريعة واحكامها واصولها ما جعله اهلا ان ينظر في المسألة فيحاول ان يجد لها من مطالب الشريعة ما يليق بها. فلما اجتهد رضي الله عنه ونظر في المسألة فرأى لها شبها بعدد من المسائل الواردة في كتاب الله لكنها بهذه الحيثيات وبالاعتبارات الواردة ليس لها نص يخصها. فيصدق ان تكون نازلة جديدة لا عهد له بها من قبل لانه لم يجد فيها اية ولم يسمع فيها حديثا. فمكمن العجب في قصته رضي الله عنه انه لما اجتهد بمحض آآ بخالص آآ عقله واجتهاده ونظره وقد امتلك رضي الله عنه الملكة الكافية في الفقه والاستنباط افتى رضي الله عنه بان لها مهر نسائها لا وخس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة. فاجتمع له رضي الله عنه من مجموع تلك المسائل التي جاءت نظائرها في نصوص ابو السنة ما يشهد بصدق فهمه حتى قام حمد ابن مالك فشهد ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى في مروع بنت واشق بمثل ما قضى به رضي الله عنه فكان ذلك اية في العجب لفهم بشري يجتهد فيه صاحبه فيبلغ من توفيق الله تعالى له ان يصيب حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني ان يوافق الوحي. يعني ان يقول باجتهاده حكما هو حكم الله عز وجل وليس ببعيد عنه قصة سعد ابن معاذ وان لم تكن مسألة فقهية آآ ذات حكم عملي لما حكمه النبي صلى الله عليه وسلم في بني قريظة وقد اصيب رضي الله عنه ودعا ربه عز وجل الا يموت حتى يمكنه من اليهود. فلما كان منه ما كان وقد احتكموا الى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووافقوا على ذلك حكم فيهم سعد بن معاذ فاتي به جريحا الى النبي عليه الصلاة والسلام فقال الله عنه يقضي فيهم يقول يرى او حكم فيهم بقتل مقاتلتهم رجالهم وسبي نسائهم وامتلاك اموالهم وكان هذا حكما ما ان تفوه به رضي الله عنه حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم والله لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبت الرباط. فلما تقف على مثل هذه النماذج تشهد بيقين ان هؤلاء الكرام رضي الله عنهم بلغوا من القريحة وصفاء الفهم وقل قبل ذلك صدق الايمان. وعمق الصلة بالله عز وجل ما وفقوا فيه اعظم توفيق ولا يمكن والله ابدا ان تقيس فقه الصحابة رضي الله عنهم ولا ادراكهم ولا معرفتهم بالشريعة اصولها وفروعها لا ان تقيسه اطلاقا بفهم احد جاء بعده من الامة على وجه الجملة. لان القوم مع ما هم فيه من الصفات والخصائص والملكات ورقة الطبع وحدة الفهم ودقة النظر كانوا مع ذلك كله معايشين للوحي. معاصرين للتنزيل. فكان هذا شيئا لا تستطيع ان تعبر عنه ولا ان تكتبه ولا ان تصفه. قوم تشردوا الشريعة. فادركوا مداخلها ومخارجها وعرفوا كما فكان احدهم بقدرة بحيث اذا سئل عن مسألة لا نص فيها ان يتكلم فيوافق حكما شرعيا منصوصا ما بلغه لكنه وافق فيه الحكم الشرعي المنزل. اريد ان اقول كانت هذه الشواهد تدل على ان الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة رسول صلى الله عليه وسلم عاشوا مرحلة جديدة لا وحي فيها ولا تشريع يردهم لكنهم امتلكوا قدرا كبيرا من فهم الشريعة ومعرفة احكامها وادراك مقاصدها ومعرفة اسرارها وغاياتها ما اهلهم بان يقودوا الامة في ذلك الزمن وفي تلك المرحلة على نحو يصيبون فيه النجاة للامة وسلوكها مسلك الهداية المطلوب هذه امثلة بعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام تشهد ان الصحابة رضي الله عنهم كانوا على ذلك القدر الكبير الذي اشرت اليه اسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والله اعلم وصلى الله على نبينا محمد واله وصحبه اجمعين