احسن الله اليكم قلتم حفظكم الله المعقد الثامن لزوم التأني في طلبه وترك العجلة ان تحصيل العلم لا يكون جملة واحدة القلب يضعف عن ذلك وان للعلم فيه ثقل كثقل الحجر في يد حامله قال تعالى انا سنلقي قولا ثقيلا اي القرآن. واذا كان هذا وصف القرآن الميسر كما قال تعالى. ولقد يسرنا القرآن للذكر فما الظن بغيره من العلوم؟ وقد وقع تنزيل القرآن رعاية لهذا الامر منجما مفرقا باعتبار الحوادث والنوازل كما قال تعالى وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ابتلناه ترتيلا. وهذه الاية حجة في لزوم التأني في طلب العلم والتدرج فيه وترك العجلة. كما ذكره الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه والراغب في مقدمة جامع التفسير. ومن شعر ابن نحاس الحلبي قوله اليوم شيء وغدا مثله من نخب العلم التي تلتقط يحصل المرء بها حكمة وانما السيل اجتماع النقط. قال شعبة ابن الحجاج خمسمائة مرة وما سمعت منه الا مئة حديث في كل خمسة مجالس حديث. وقال حماد ابن ابي سليمان لتلميذ له تعلم كل يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها شيئا. ومقتضى لزوم التأني بالتدرج البداءة بالمتون القصاي المصنفة في فنون العلم حفظا واستشراحا والميل عن مطالعة المطولات التي لم الطالب بعد اليها. ومن تعرض للنظر المطولات فقد يجني على دينه وتجاوز الاعتدال في العلم ربما ادى الى تضييعه. ومن بدائع الحكم قول عبدالكريم احد شيوخ العلم بدمشق الشام في القرن الماضي طعام الكبار سم الصغار وصدق. فان الرضيع اذا تناول طعام الكبار ما لذ وطاب اهلكه واعقبه ومثله من يتناول المسائل الكبار من المطولات. ويوقف نفسه مع ضعف الالة على اخره العلماء وتعدد مذاهبهم في المنقول والمعقول. ذكر المصنف وفقه الله المعقد الثامن من معاقد تعظيم العلم وهو لزوم التأني في طلبه وترك العجلة بالتدرج فيه والترقي شيئا فشيئا. وعلله بان الماء لا يحصل جملة واحدة فالقلب يضعف عن ذلك فان للعلم في القلب ثقلا كثقل الشيء بيد حامله فكما ان الابدان تكل عن حمل الشيء الثقيل فكذلك تكن القلوب عن حمل العلم الثقيل دفعة واحدة واتفق ترتيب ذلك في نزول القرآن فانه نزل منجما اي مفرقا. واصل النجم الوقت المضروب واصل النجم الوقت المضروب. فاتفق انزال القرآن منجما مفرقا على هذه السورة اية لحفظه علما وعملا بان يأخذه المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم والمبلغ اليه وهم الصحابة رضي الله عنهم شيئا فشيئا فيحفظونه ويفهمون مراد الشرع فيه. وذكر قول الله تعالى وقال الذين كفروا لولا نزل عليهم قرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك. وبين ان الخطيب البغدادي او راغب الاصبهاني ان هذه الاية اصل في التأني في العلم واخذه متدرجا. وترك العجلة فيه. ثم ذكر من الشعر والنثر ما يقرر هذا المعنى ويبينه. ثم بين مقتضى لزوم التدرج والتأني في العلم انه يكون بامرين احدهما البداءة بالمتون القصار المصنفة في فنون العلم حفظا تشراحا والاخر الميل عن مطالعة المطولات التي لم يرتفع الطالب بعد اليها. فمن اراد ان يكون متأنيا متدرجا في اخذ العلم فانه يبدأ بالمتون المختصرة حفظا واستشراحا قوته فيها ويعزف عن مطالعة المطولات فلا يشتغل فيها. لان اشتغاله بها مع الحال ربما اضعفه واوهنه وربما امضغه واعاقه وصرفه عن العلم كلية او وقع في شيء من شبهات وذكر كلمة تنسب الى عبد الكريم الرفاعي انه كان يقول طعام الكبار سم الصغار. اي ما يتناوله الكبار طعاما يتقوون به فانه يكون صما للصغار. كاللحم اللذيذ الذي يستطيبه الكبار مطبوخا ومشويا انه اذا دفع الى الرضيع وغذي به ربما اهلكه واعطبه ومات من ساعته. وهذا معنى قوله هو وغيره طعام الكبار سم الصغار اي ما يجتمع عليه الكبار لينتفعوا به في العلم يكون لصغار المشتغلين بالعلم سما ناقعا يقطعهم عما ينفعهم من العلم. هذا معنى هذه الكلمة. ومن الناس من يطلقها يريد بها الناس عن تلقي العلم عن كبار العلماء سنا فيزعم ان الاخذ عن هؤلاء لا ينتفع به للمبتدئين ويقول طعام الكبار سم الصغار اي ما يدرسه هؤلاء الكبار يكون بالنسبة للصغار سما وهذا معنى باطل ولم يرده القائلون هذه كلمة وانما ارادوا ان العلم الذي يجتمع عليه الكبار من النظر في المطولات ربما صار سما لمن كان صغيرا فمن اراد ان يتأنى في العلم فانه يأخذ بهذين الامرين بان يستفتح علمه بالمتون المختصرة حفظا واستشراحا ويبلغ في اخذها اتقانا ويعزف عن مطالعة المطولات فلا يقبل عليها الا مع قوة الالة ويكون من كتب العلم ما ينوء بحمله العصبة من الرجال. فان من الكتب الدقيقة من لا تشرف عليه اكثر افهام خلق وقد ابتدأ شيخنا العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله اقراء درء تعارض العقل والنقل في درس الخميس صباحا ثم لما بلغ منه مئة صفحة اوقف الدرس. لان اكثر الناس لا يدركون هذه المعاني وكانوا طلابا للعلم مع ذلك يعجزون عن فهم شيء من دقيق العلم الذي في مثل هذه الكتب. فرأى معلمهم ان منفعتهم في حجب هذا وانه يخلص هذا لافراد من الخلق تكون لهم مكنة على تعاطي هذه الكتب. وهؤلاء هم المعلمون الناصحون باحوال الناس الذين يحملونهم على ما ينفعهم. ومن الناس اليوم من يدعو دعوة واسعة الى ما يسميه كسر حجاب تعظيم الكتب الكبار وان طلاب العلم خوفوا منها. وان هذا اورثهم الضعف بالعلم. وهذا جهل فان الذي اورث الطلاب ضعف في العلم هو جرائتهم على الكتب المطولة وعزوفهم عن المختصرة. فلما صارت هذه حالهم وجد الخلل فيهم. واما تطلعهم الكتب المطولة فقد كانت طريقة اهل العلم نهيهم عن ذلك حتى يبلغوا المكنة فيها اما بقرائتها مع من الطلبة او بمطالعتها بانفسهم. وكان لشيخ شيوخنا محمد بن ابراهيم رحمه الله درس لا يحضره الا اربعة لا يقرأ به الا مثل هذه الدقائق من العلم ولم يكن درسا مفتوحا للناس كافة. فكان المعلمون الناصحون يأخذون هذا واما المتسارعون الى صورة العلم الذين يزعمون انهم يقرؤون دراء التعارض للعقل والنقل او منهاج السنة النبوية او على المنطقيين او غير ذلك من الكتب الدقيقة. او علل الدارقطني ويعقدون في ذلك دروسا في المساجد او خصائص ابن جني فهذا لم يكن من عادة اهل العلم وانما كانوا يخصون بها الاذكياء النبهاء. لانه ربما صار لغيرهم فتنة. فان كثيرا ممن تطلع الى هذه الكتب ربما وقع عنده من الغلط على العلم واهله ما كان منشأه انه ارتفع الى تلك الكتب ولم يبلغ القدرة عليه فاذا بلغت القدرة عليها فحين ذلك اقرأ ما تشاء منها. ومن كان قويا في اصول العلم لم يحتج الى تلك الكتب. فان من كان ينفع الناس كانت كتبه التي بين يديه قليلة وانما كان متين العلم في اصوله. فهذا الرجل الذي ذكرناه قريبا وهو عبدالرحمن بن سعدي الذي يظحي الناس ويمسون على الانتفاع بكتبه لم يكن في مكتبته سوى مئتي كتاب. فكانت هذه الكتب التي تحفل بها مكاتبنا محجوبة اكثرها عنه. لكن كان عنده من اصول العلم في حفظه وفهمه ما امكنه به ان يزاحم الاوائل ويوجد عنده من المعاني التي يقطع الناظر بانه لم يطلع على كلام من تقدمه لان هذه الكتب كانت مفقودة ثم ما وجد كلامه موافقا لكلامهم لانه اوتي من دقيق الفهم مع قوة الاصول ما نبل به في العلم. فطالب العلم اذا وثق اصوله بز في العلم ولو لم يطالع المطولات حتى صار يزاحم اهله. فالشأن في حسن الفهم لا في كثرة الاطلاع وان كانت كثرة الاطلاع ممدوحة لكن بعد البناء الوثيق. اما المطالعة للمطولات مع عدم البناء الوثيق فان هذا يردي صاحبه غالبا. نعم