السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله الذي جعل طلب العلم من اجل القربات وتعبدنا به طول الحياة الى الممات واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له. واشهد ان محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وسلم ما عقدت مجالس التعليم وعلى اله وصحبه الحائزين مراتب التقديم. اما بعد فهذا درس التاسع عشر في شرح الكتاب الاول من برنامج التعليم المستمر في سنته الاولى ثلاثين بعد الاربعمائة والالف واحدى وثلاثين بعد الاربعمائة والالف. وهو كتاب تذكرة السامع والمتكلم للعلامة محمد بن ابراهيم جماعة رحمه الله ويليه الكتاب الثاني وهو بلوغ القاصد جل المقاصد للعلامة عبدالرحمن بن عبد الله البعلي رحمه الله ويليه الكتاب الثالث وهو فتح الرحيم الملك العلام للعلامة عبدالرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله. وقد انتهى البيان في الكتاب الاول الى قول المصنف رحمه الله تعالى في الفصل الاول من الباب الثالث الرابع الخامس او الخامس ان يقسم اوقات ليله ونهاره. نعم. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين ولجميع المسلمين قال المصنف رحمه الله تعالى الخامس ان يقسم اوقات ليله ونهاره ويغتنم ما بقي من عمره فان بقية العمر لا قيمة له واجود الاوقات للحفظ الاسحار. وللبحث الابكار وللكتابة وسط النهار وللمطالعة والمذاكرة فقال الخطيب اجود اوقات الحفظ الاسحار ثم وسط النهار ثم الغداء. قال وحفظ الليل انفع من حفظ النهار ووقت الجوع انفع من وقت الشبع. قال واجود اماكن الحفظ الغرف وكل موضع بعيد عن الملهيات. قال وليس بمحمود الحفظ النبعة والخضروات والانهار وقوارع الطرق وضجيج الاصوات. لانها تمنع لانها تمنع من خلو القلب غالبا ذكر المصنف رحمه الله تعالى ادبا اخر من اداب طالب العلم في نفسه يتعلق بكيفية اغتنامه زمانه. فذكر ان طالب العلم مأمور بان يقسم اوقات ليله ونهاره. بحسب ما لكل منها فان من عمل الليل ما لا يصلح في النهار ومن عمل النهار ما لا يصلح في الليل وبهذا جاءت الشريعة فان الشريعة فرضت علينا اعمالا وسن لنا فيها سنن تكون في الليل دون النهار عبادات تكون في النهار دون الليل. وكذلك ما يتعلق باصلاح الانسان في تدبير معاشه. وتحصيل مقاصده فان من امره ما يكون صالحا لليل ومنه ما يكون صالحا للنهار. ومن جملة ذلك ما يتعلق طالب العلم فان من طلب العلم ما يصلح في الليل دون النهار ومنه ما يصلح في النهار دون الليل كما سيأتي في كلام المصنف رحمه الله الله تعالى ويأثره عن غيره. ثم قال رحمه الله تعالى مبينا ما ينبغي ان يكون عليه طالب العلم في وقته. قال ويغتنم ما بقي من عمره فان بقية العمر لا قيمة له. اي يشتغل بان يصيب الغنائم فيما بقي من عمره الذي قدره الله عز وجل فان ما بقي من العمر لا يحصل فيه غنيمة فلا قيمة له فما بقي من عمرك بعد اليوم قسمان اثنان احدهما نوع تصيب فيه غنائم العلم والعمل وهذا له عظيمة عند الله عز وجل وعند خلقه. والاخر نوع لا تصيب فيه غنيمة فهذا لا قيمة له وهذا ما معنى قول المصنف؟ فان بقية العمر اي الذي لا تصيب فيه غنيمة لا قيمة له. والامر كما كان ابو الوفاء ابن عقيل رحمه الله تعالى يقول كل يوم تطلع فيه الشمس لم استفد فيه فائدة فليس من عمري رحمه الله فان الاعمال في الايام ان لم تقربك الى مناصب العلم والعمل العالية فانه لا منها والغانم حقا هو الذي يكون زمانه ذخيرة يكتنز فيها علما وعملا صالحا ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى تقسيم اليوم والليلة والنهار والليل بما ينبغي ان يكون من عمله في حق طالب العلم فقال واجود الاوقات للحفظ الاسحار وللبحث الابكار وللكتابة وسط النهار وللمطالعة والمذاكرة الليل. وهذه قاعدة كلية في الوقت. روعي فيها حال الناس فيما سلف. وباعتبار ما تنتهي اليه اعمالهم. وقد يحدث للناس في زمانهم احوال توجب تغير مثل هذا كما سيأتي. والاصل ان القاعدة الكلية فيما سلف عليه الناس اكمل. وما حدث فمن الاحوال التي غيرت طبائع الخلق فانها تضر بهم. فان الناس فيما سلف مثلا كانوا يبكرون بنومهم يبكرون بيقظتهم وهذا انفع وحينئذ يكون تقدير الاوقات في الاجود حفظا وفهما وبحثا ومطالعة على ما ذكر المصنف رحمه الله تعالى. واما اليوم فان جمهور المسلمين يتأخرون في نومهم. ويتأخرون في استيقاظهم وحينئذ فان تفضيل زمان على زمان في حقهم هو باعتبار قوة ابدانهم وجودة اذهانهم فان قوة البدن تكون اجمع بعد النوم الذي يرتاح فيه البدن. فاذا كان هذا حاصلا لجمهور ما سبق في الاسحار لانهم يبكرون الى نوم الليل. فاذا بلغ الانسان منهم اخر الليل فاذا هو قد حصل من النوم ما يكون قوة لبدنه يستيقظ بعدها فحينئذ يكون الافضل في حقه في الحفظ كما ذكر المصنف وغيره كما سيأتي ذكره. واما باعتبار ما ال اليه حاله الناس فان المراعى هو ان يكون البدن قد اصاب راحة تامة. فاذا كان الانسان اذا صلى الفجر يكون قد ارتاح بما فرغ من نوم ليله. فحين تكون جمعية قلبه وقوة ذهنه حاصلة فيصلح للحفظ بعد الفجر. وان كان لم يحصل ذلك شيئا واحتاج الى زيادة نوم فانه ينام فاذا استيقظ بعد ذلك كان الوقت الذي يكون بعد استيقاظه اجود لحفظه وان كانت القاعدة ان حال من سبقه واكمله. وقد ذكر رحمه الله تعالى في توقيت الاوقات فيما سلف في صناعة العلم ان اجود الاوقات للحفظ عندهم الاسحار. والمراد بالاسحار عندهم اخر الليل. وانما سميت باسم سحر لانه غالب ما فيه فان السحرة في اصح اقوال اهل العلم رحمهم الله تعالى مختص بالوقت الكائن بين الاذان والاذان الثاني لصلاة الفجر. وهذا بعض مسمى السحري عندهم في صناعة العلم. فان ما يتقدمه من وقت يلحق به وقد يكون بالغا الساعة وقد يكون اقل من ذلك وان كان السحر في تقديره هو اقل من ذلك فربما كان عشرين دقيقة او ربع ساعة لكن مسمى السحر عندهم في تصرف الحفظ يطلقونه على اخر الليل ومن افضله وقت السحر فهو من تسمية الكل باشرف اجزائه. ثم قال وللبحث الابكار. والابكار جمع وهي اول النهار. ومقصوده رحمه الله تعالى وللبحث الابكار اي للاستشراح وفهم فان الاذهان في اول النهار وقادة. والنفوس مستعدة. فيحصل الانسان في اول النهار من بقوة ما لا يكون في وسطه ولا في اخره. ومن هنا دأب اهل صناعة علم الدنيا على تخصيص المحاضرات والحصص الاولى في التعليم النظامي بالمقررات التي تحتاج الى كد ذهن ومشقة فهم لعلمهم بان النفوس تكون اكثر استعدادا في مثل هذا. ثم قال وللكتابة بسط النهار لفراغ الناس من اشتغالهم بطلب العلم في اوله وانصراف كل منهم الى محل اقامته فحينئذ يفرغ للانسان زمن ينبغي ان يكتب فيه. قال وللمطالعة والمذاكرة الليل لما فيه من السكون فان السكون يعين على المطالعة وجمع القلب والمذاكرة في العلم. ثم نقل رحمه الله تعالى لا كلاما عن الخطيب البغدادي واذا اطلق الخطيب دون تقييد فلا يراد به الا احمد ابن علي ابن ثابت البغدادي الحافظ الكبير صاحب كتاب تاريخ بغداد والجامع لاخلاق الراوي وادابه السامع. واما مع التقييد فقد يراد به الخطيب الشربيني او غيره من اهل العلم الذين عرفوا باسم الخطيب مقيدا. اما مع الاطلاق فالمراد به ابو بكر الخطيب صاحب تاريخ بغداد وقد قال رحمه الله تعالى في كتاب الجامع اجود اوقات حفظ الاسحار ثم وصل النهار ثم الغداة ثم قال وحفظ الليل انفع من حفظ النهار. لان الظلمة اذا استحكمت استنار القلب. فان ظلمة الليل تكون غطاء يمنع البصر عن الاسترسال. فان البصر اذا استرسل ضعف عمل القلب. واذا حجب البصر قوي عمل القلب. ولذلك كان في اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هو اعمى ولم يكن فيهم من هو اصم كما ذكره ابو عبد الله ابن القيم والسفارين في غذاء الالباب لان الصمم يمنع وصول العلم بخلاف العمى فانه ربما يكون معينا على تحصيل العلم لان الانسان اذا حفظ بصره حصل لقلبه قوة في جمع ما يلقى اليه. ولاجل هذا شرفت صلاة النفل بالليل على صلاة النهار لان الانسان اذا خلا بربه سبحانه وتعالى لم يكن متطلعا مستشرفا الى مدح الناس وثنائهم لان لليل حجابا يرسله فلا يراه فيه الناس. وكذلك تحصيل الحفظ في الليل انفع للانسان. لان قلبه يقوى جمعه لمادة الفهم والادراك والالقاء اليه بخلاف النهار فان البصر يسترسل في النهار ها هنا وها هنا فيظعف عمل القلب ثم قال ووقت الجوع انفع من وقت الشبع. لان الانسان اذا شبع عملت مادته عملا في هضم الطعام الذي اكله. وهذا الهضم بطبيعته يضعف قوة العقل. كما ان الابخرة التي تتصاعد من هظم الطعام تظعف مادة الذهن. ولذلك قل ان يوجد بدين فطن وقد يوجد فيهم من عنده فهم واما الفطنة فانها تقل لان اقبال الانسان على الطعام تكثر معه مادة الابخرة المتصاعدة الى الدماغ والتي تظعف قوة الدهن. فاذا كان غالب حال الانسان الاعتدال في مطعمه وكونه اقرب الى الجوع منه الى الشبع فان ذلك اعون له في الحفظ. ولا ينبغي من اراد الحفظ ان يأكل ثم يشرع في الحفظ لان هذا يظعفه. بل يؤخر الطعام عن وقت الحفظ ثم ذكر كلاما للخطيب يتعلق بنعت ما ينبغي ان يكون من الاماكن فانما سلفه متعلق بالازمان قال واجود اماكن الحفظ الغرف. وكل موضع بعيد عن الملهيات. وانما جعلت الغرف هي اجود اماكن الحفظ لان الانسان يحفظ فيها حبيسا في قطعة صغيرة من المكان فيكون في ذلك قطع لسمعه وبصره وفكره عن الاشتغال بغير الحفظ. بخلاف الاماكن المفتوحة فان الاماكن المفتوحة ومن جملتها السطوح يكون فيها للبصر استرسال وللاذن اطراق وللقلب اشتغال فيضعف الانسان عن الحفظ فيها. وكلما كانت الغرفة اضيق كان ذلك انفع. ما لم يشق الانسان في مجلسه ومشيه واضطجاعه فان ذلك يمله. لكن الغرف الصغيرة انفع من الغرف الكبيرة ولهذا فان الاربطة التي كانت تبنى في البلاد الاسلامية لطلبة العلم كانت الغرف فيها تجعل صغارا بحيث يجمع الانسان نفسه في هذه الغرفة على تحصيل مقصوده من العلم حفظا وفهم. ثم قال وكل موضع بعيد عن الملهيات وفي هذا اعلام بان العلة الحاملة على تجويد مكان دون اخر هو قلة الملهيات فيه. فكل مكان قلت فيه الملهيات ولم تكثر فيه المشغلات فانه افضل من غيره. وحينئذ فان من يروم الحفظ في السطوح او اماكن التنزه او سواحل البحار او على الانهار يضعف حفظه بسبب وقوعه في مكان كثرت فيه الملهيات والشواغر. ثم قال الخطيب وليس الحفظ بحضرة النبات والخضرة والانهار وقوارع الطرق وضجيج الاصوات لانها تمنع من القلب غالبا وهذا مأخذ المسألة. فكل مكان كان القلب فيه مشغولا ما فانه لا يصلح للحفظ. وكل مكان قلت فيه الشواغل او خلت فانه انفع للحفظ نعم. احسن الله اليك. قال السادس من اعظم الاسباب المعينة على الاشتغال والفهم وعدم الملال. اكل القدر اليسير من قال الشافعي رضي الله عنهما شبعت منذ ست عشرة سنة وسبب ذلك ان كثرة الاكل جالبة لكثرة الشرب وكثرة جالبة للنوم والولادة والبلادة وقصور الذهن وفتور الحواس وكسل الجسم هذا مع ما فيه من الكراهية الشرعية والتعرض لخطر الاسقام البدنية. كما قيل فان الداء اكثر ما تراه يكون من الطعام او الشراب ولم يرى احد من الاولياء والائمة العلماء يصف شاكرا او يوصف بكثرة الاكل ولا حمد به. وانما تحمد كثرة من الدواب التي لا تعقل بل هي مرصدة للعمل. والذهن الصحيح اشرف من تبديده وتعطيله بالقدر الحقير من طعامه يؤول امره الى ما قد علم ولو لم يكن من افات كثرة الطعام والشراب الا الحاجة الى كثرة دخول الخلاء فكان ينبغي العاقل الذي بان يصون نفسه عنه. ومن رأى الفلاح في العلم وتحصيل البغية منه مع كثرة الاكل والشرب. والنوم فقد رام مستحيلا في العادة والاولى ان يكون ما يأخذ من الطعام ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما ملأ ابن ادم عدم وعاء شرا من بطن بحسب ابن ادم لقيمات يقمن صلبه فان كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه به وثلث لنفسه. رواه الترمذي. فان زاد على ذلك فالزيادة اسراف خارج عن السنة. وقد قال الله الا وكلوا واشربوا ولا تسرفوا. قال بعض العلماء جمع الله بهذه الكلمات الطب كله. ذكر المصنف رحمه الله تعالى ادبا اخر من اداب طالب العلم في نفسه وهو الحرص على اكل القدر اليسير من فان ذلك من اعظم الاسباب المعينة على الاشتغال بالعلم والفهم وعدم الملال. فان امتلاء البطن يذهب قوة الذهن ويشغل الانسان بالطعام والشراب كما سيأتي في كلام المصنف وقد ذكر رحمه الله تعالى من مقولات اهل العلم في ذلك ما جاء عن الشافعي رحمه الله انه قال ما شبعت منذ ست عشرة سنة وامتناع الشافعي رحمه الله تعالى عن الشبع ليس المراد به امتناع عما احل الله سبحانه وتعالى له من مطعم ومشرب. ولكن مراد الشافعي رحمه الله تعالى امتناعه مما يضر بمقصده فان مقصده هو طلب العلم وتحصيله. والشبع من الطعام والشراب يمنعه من تحصيل هذا المقصود. والمرء اذا كان له مقصود شريف. فاستعان بما يعينه على ذلك مما اذن له فيه كان محمودا على ذلك. واما تجويع النفس دون مقصده صحيح في نفسه فان ذلك لم تأمر به الشريعة. ثم ذكر تعليل الحض على القدر اليسير من الحلال بقوله وسبب ذلك ان كثرة الاكل جالبة لكثرة الشرب. فان الانسان اذا هو اكله احتاج الى الشراب. فاذا كثر شربه جلب له ذلك النوم كما قال المصنف. وكثرته للنوم والبلادة وقصور الذهن وفتور الحواس وكسل الجسم. فاذا امتلأ وطاب ابن ادم طعاما وشرابا اخلد الى لذة النوم وتبلد ذهنه وقصر فهمه وفترت حواسه وكسل جسمه واصابه العجز. مع ما يجتمع الى هذه المعاني من الكراهية شرعية من المبالغة في الطعام والشراب. فان الانسان مأمور بالاقتصاد في مطعمه ومشربه. كما في حديث المقداد الذي رواه الترمذي وغيره ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ما ملأ ابن ادم وعاء شرا من بطن ثم قال النبي صلى الله عليه مرشدا بحسب ابن ادم لقيمات يقمن صلبه. وفي ذكر اللقيمات على وجه التصغير الى التقليل فان تقليل المأكول مما حض عليه الشرع وهذا يدل على ان تكثيره مما يخالف مقصود الشرع فان مقصود الشرع من الامر بالاكل والشراب هو اقامة الصلب اي قوة البدن ولهذا فان الاكل والشراب ليس مباحا كما يقوله بعض الفقهاء بل ان الاكل والشراب مأمور به كما ذكره العلامة ابن سعدي عند قول الله تعالى وكلوا واشربوا. فالانسان مأمور بان يأكل ويشرب بقدر ما يحصل به صلبه وتقوية بدنه ليقتدر بذلك على اداء ما امره الله سبحانه وتعالى به. فان كان اذا ضعفت قوته لقلة اكله وشربه ضعف عن اداء ما امره الله عز وجل به من الاحكام الشرعية ويعلم به حينئذ ان الامتناع عن الاكل والشرب دون غاية شرعية انه محرم شرعا فان الامر بالاكل والشرب يقتضي استلزاما ان الامتناع عنه دون وجه شرعي انه منهي عنه فاذا الانسان عن الطعام والشراب لاجل الصيام كان ذلك مثابا عليه. واذا امتنع الانسان عن ذلك حمية ببدنه وحفظا لقوته لئلا يضعف كان ذلك مأمورا به. واذا امتنع الانسان عن الطعام والشراب لما يسمى بالاعتصامات والاضرابات فان ذلك محرم شرعا. لانها ليست غاية شرعية مأمورا مأمورا بها فلا يجوز تحصيلها بمثل هذه الطريق التي لم تأمر بها الشريعة. وكل هذا مفرع على ما ذكرناه مما ذكره العلامة ابن سعدي ان الاكل والشرب في اصلهما مأمور بهما لاجل تقوية صلب الانسان وبدنه ليقوم بما الله سبحانه وتعالى به من عبادة. كما ان الازدياد من الطعام والشراب يعرض البدن لخطر الاسقام البدنية فان من اعظم اسباب علل الابدان كثرة الطعام والشراب. فان الانسان اذا كثر طعامه وشرابه كثر ادواءه وعلله ولا سيما اذا تقدمت به السن. والاربعون فاصل في حق الانسان في اعتدال طعام وشرابه فان الانسان في مبادئ امره واول عمره يسعه من الاكل والشراب ما لا يسعه بعد بلوغ سني الاشد فاذا بلغ الانسان الاربعين فانه ينبغي له ان يلازم الاعتدال في اكله طعاما وشرابا لئلا تعتوره الى ثم قال ولم يرى احد من الاولياء والائمة العلماء يصف شاكرا اي يصف غيره شاكرا له او يوصف بكثرة الاكل ولا حمد به. وانما تحمد كثرة الاكل من الدواب التي لا تعقل بل هي مرصدة للعمل وانما حمد كثرة الاكل للدواب لانها تعمل بابدانها. فحين اذ يصلح لها الاكل واما العبد فانه لا يعمل ببدنه فقط بل يعمل بقلبه. وربما كان عمل قلبه اشرف من عمل بدنه. ولا يحصل له عمل قلبه الا بملاحظة اكله وشربه. فحصل بينه وبين الدواب بالفرظ. فان الدواب تعمل بابدانها فقط فحينئذ تمدح بكثرة اكلها ويؤمر بوضع الطعام لها لتشبع فتكون قادرة على العمل. واما العبد فانه يعمل وقلبه وكثرة الاكل مضرة بقلبه مضعفة له عن سيره وعمله. ثم قال والدهن الصحيح اشرف من تبديده وتعطيله بالقدر الحقير من طعام يؤول امره الى ما قد علم. ولو لم يكن من افات كثرة الطعام والشراب الا الحاجة الى كثرة دخول الخلاء لكان ينبغي للعاقل اللبيب ان يصون نفسه عنه. لان الخلاء موضع تجتمع فيه الشياطين وتأنف النفوس الشريفة من البقاء فيه ومن العيوب التي تلحق مكثر الاكل والشراب انه يحتاج الى كثرة دخول الخلاء. فحينئذ يدخل الى مكان مستقبح ينبغي الا يكون ليد الانسان به الا على قدر الحاجة الداعية. واما الزيادة على ذلك فانها مستقبحة عند اولي الالباب. ثم قال ومن الفلاح في العلم وتحصيل البغية منه مع كثرة الاكل والشرب والنوم فقد رام مستحيلا في العادة وصدق رحمه الله تعالى فان الانسان اذا كان مكثرا من الاكل والشرب والنوم فاين قوة عقله وجودة فهمه فان النوم والاكل والشرب كل واحد منهما مضعف لتوقد الدهن. فاذا اجتمعت هؤلاء الثلاث جميعا فانها تظعف ذهن الانسان بالكلية. ثم قال والاولى ان يكون ما ياخذ من الطعام ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر حديث المقداد وفيه القسمة الثلاثية لما ينبغي ان يكون عليه الانسان فقال فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه اي تنفسه بالشهيق والزفير. والانسان اذا اكثر الطعام وملأ معدته به اضعف تنفسه ثم قال فان زاد على ذلك فالزيادة اسراف خارج عن السنة. والفرق بين الاسراف والتبذير ان الاسراف يكون مشروعا في فهو متعلق بما اذن به شرعا. كاكل وشراب لمحتاج اليهما. واما التبذير فيتعلق بغير مأذون به شرعا ثم قال وقد قال الله تعالى وكلوا واشربوا ولا تسرفوا. قال بعض العلماء جمع الله هذه الكلمات الطب كله. ذلك ان الطب يرجع الى ثلاث قواعد القاعدة الاولى حفظ صحة البدن وقوته والقاعدة الحمية من المواد الضارة المفسدة له والثالثة استفراغ المواد الفاسدة من البدن والمذكور في الاية هو القاعدتان الاوليان. فان قوله تعالى وكلوا واشربوا بما فيه قوة للبدن وقوله ولا تسرفوا حفظ للبدن بالحمية من المواد الفاسدة واما القاعدة الثالثة وهي استفراغه من المواد الفاسدة فانه غير مذكور في هذه الاية وانما مذكور في قوله تعالى فمن كان منكم مريضا او به اذى من رأسه ففدية من صيام او صدقة او نسك فانه اذن لمن كان مريضا او به اذى اذى من رأسه ان يحلق رأسه ليستفرغ المواد الفاسدة بتصاعد هذه الابخرة المضرة به من فروة رأسه وقد بسط القول في هذه القواعد ابن القيم رحمه الله تعالى في الجزء الرابع من كتاب زاد المعاد وذكرها ابن الكحال قبله وهذا اخر البيان على هذه الجملة من الكتاب وبالله التوفيق